الجمعة 2018/07/20

آخر تحديث: 12:42 (بيروت)

تابوت الإسكندرية... لعنة الفرص المهدورة

الجمعة 2018/07/20
تابوت الإسكندرية... لعنة الفرص المهدورة
الصور المسربة تقول إنهم اتبعوا الطرق البدائية في التنقيب
increase حجم الخط decrease
تعلّم المسؤولون عن الآثار في مصر، من درس العام الماضي.
ففي آذار/مارس الماضي، دعا خالد العناني، وزير الآثار المصري، وسائل الإعلام المصرية والعالمية لمتابعة انتشال تمثالين ملكيين من الأسرة الـ19 عثر عليهما في منطقة عين شمس الأثرية، وكان يرجح أنهما في مقدمة معبد الملك رمسيس الثاني الذي بناه في رحاب معابد الشمس بمدينة أون القديمة، ويعتقد بأن أجزاء كبيرة منه ما زالت مطمورة في التراب.

بعد رفع وجه الملك من الطين بطريقة بدائية تماماً، وضعه "خبراء الآثار" على جانب الطريق، لعب معه الأطفال، وتبولت إلى جانبه الكلاب، في صور تداولتها وسائل الإعلام المحلية والعالمية. تحرك المسؤولون مساء اليوم التالي، فغطوا وجه الملك بملاءة، وكأنهم وجدوه في شقة دعارة! فضيحة مدوية أمام عيون العالم.

هذا العام أثبت المسؤولين أنفسهم أنهم تعلموا الدرس جيداً. لكن الدرس المستفاد لم يكن كيف تحسن التعامل مع التركة الفريدة، بل: إفعل بها ما تريد لكن بعيداً من عيون الناس!

فمع بداية العام، ومع التحولات الكبيرة التي تجرى في الإسكندرية، اشترى أحد المقاولين العقار الرقم 8 في شارع الكرملي بسيدي جابر، لهدمه وبناء برج سكني، ووصل إلى الطابق الأرضي وبدأ حفر الأرض. حفر أمتاراً عميقة، لكنه لم يصل إلى المياه، وظهرت بدلاً منها حُفر غائرة، ما أثار شكوكه بأنها قد تكون مقبرة أثرية، فأبلغ الجهات المسؤولة التي تواصلت بدورها مع الآثار، حتى تم التوصل إلى شواهد أثرية بالفعل واستخراج تمثال صغير الحجم مطموس المعالم بجوار تابوت ضخم من الغرانيت الأسود.


الرواية الرسمية نسبت الفضل كله لبعثة أثرية تعمل في المنطقة نفسها، لكن على أي حال فالمحصلة النهائية كانت تابوتاً أثرياً ضخماً على عمق 5 أمتار من سطح الأرض، ويتراوح وزنه بين 25 و30 طنًا.

لم تُولِ الوزارة الأمر كثير اهتمام، لذا لم يظهر في الصحافة المحلية وقتها. لكن الصحافة العالمية تلقفت الحدث، وإن ذهبت به في اتجاهات مغايرة، فأطلقت تحذيرات جادة من عواقب فتح التابوت، وزعمت أن فتحه سيطلق لعنة من شأنها أن تجلب 1000 عام من الظلام لكل البشرية، استناداً إلى ما يعج به التاريخ المصري القديم من أقاويل حول تلك اللعنة.

هدية، ومنحة مجانية لبلد يبحث عن استرداد السياحة المعطلة بأي ثمن، قصة مكتملة تحمل كل عناصر التشويق لعاشقي المصريات والمهووسين بالحضارة الفرعونية. تابوت مغلق ولعنة مسلطة. أصبحت القصة حديث العالم خلال ساعات، كثرت الأسئلة والتكهنات ليس فقط حول اللعنة، لكن أيضاً عن صاحب التابوت الغامض. فبعد إعلان بعض المتخصصين أن المقبرة التي وجد فيها التابوت ترجع إلى العصر البطلمي، وبما أن التابوت يعتبر أضخم تابوت عُثر عليه في محافظة الإسكندرية، فقد بُعث حلم العثور على مقبرة الإسكندر الأكبر، التي شغلت العالم ولا تزال.


أجمع الأثريون على أن الإسكندر الأكبر، دفن في مصر وخصوصًا في الإسكندرية، وقال المدير العام السابق لإدارة الآثار الغارقة في الإسكندرية، محمد مصطفى عبد المجيد: "إن المصادر اختلفت حول موقع دفن الإسكندر الأكبر سواء داخل مصر، أو خارجها، لكن معظمها أكد أنه دفن في الإسكندرية وتحديداً في منطقة السوما وهي المنطقة التي تقع بين البحر ورأس السلسلة، وشارع فؤاد بالقرب من منطقة الأزاريطة حالياً، والتي كان يطلق عليها الحي الملكي البطلمي".

وتابع: "إن بعض الباحثين قالوا إنه يوجد أسفل مسجد النبي دانيال، وهناك من قال إنه في شارع المسرح الروماني، وهناك روايات تقول أن كليوباترا عند تجهيزها لحروبها، خصوصًا معركتها ضد أكتافيوس، أخذت التابوت المصنوع من الذهب الخاص بالإسكندر، وصنعت له تابوتاً آخر، وذكرت روايات العلماء أن أكتافيوس بعد انتصاره زار بصحبة المصريين قبر الإسكندر".

رئيسة جمعية آثار الإسكندرية منى حجاج قالت: "إن مقبرة الإسكندر الأكبر تقع داخل الحي الملكي بالفعل، في وسط المدينة القديمة بين محطة الرمل والشاطبي"، واستبعدت أن يكون الكشف الجديد يخص الإسكندر، على اعتبار أنه في سيدي جابر، وهذا يعني أنه خارج حدود المدينة البطلمية، وقت حكمه، والتي كانت تنتهي عند مقابر الشاطبي. وأوضحت: "التابوت في العصور القديمة كان يزخرف وفقاً لأهمية الشخص المدفون، وهذا التابوت أملس خال من النقوش من الخارج، ومن ثم فهو على الأرجح لا يخص الإسكندر الأكبر، ما يؤكد أن المقبرة لا تخصه أيضا".

اهتمام الصحف العالمية بالحدث حوّل مواقع التواصل في اتجاه آخر؛ نصائح مباشرة لاستغلال الحدث، اقتراحات بالتعاقد مع قنوات عالمية وتصوير أفلام تسجيلية، ودعوة نجوم عالميين، وبث الحدث على الهواء مباشرة، واقتراحات عملية لطرق التنفيذ، مناشدات صادقة لاستغلال الحدث بأي ثمن لإعادة مصر إلى مكانتها السياحية القديمة مجدداً، ولتلبية شغف العالم بألغاز الحضارة المصرية القديمة، لكن المسؤولين كان لهم رأي آخر.


تجاهلت وزارة الآثار المقترحات كلها، وفجأة، ومن ودون سابق إنذار قررت فتح التابوت، من دون دعوة أحد، بل ومنعت الصحافيين والإعلاميين المصريين الذين حضروا بعد انتشار الخبر من حضور الحدث الذي يلقى اهتمامًا عالميًا، وفرضت حراسة مشددة من الشرطة العسكرية على موقع التابوت!

أخلت قوات الأمن الموقع، واختفى المسؤولون وراء ستائر كالتي تعلق في الأفراح، ثم توالت الأخبار: إزاحة الغطاء بمقدار 5 سم. انبعاث رائحة نفاذة من الموقع. العثور على سائل أحمر بداخل التابوت. شفط السائل والتخلص منه في الشارع! تحليل السائل المكتشف. السائل من مخلفات الصرف الصحي. لا وجود للزئبق الأحمر. وأخيراً، خرج مصطفى وزيري، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، بعد نحو ثلاث ساعات، ليعلن أنه عُثر على 3 هياكل عظمية لمومياوات داخل التابوت الأثري.

ورجَّح وزيري، في حديث أجراه من موقع الحدث مع الصحافيين الذين منعهم من حضوره، أن تكون المومياوات هي "دفنة عائلية"، مشيرًا إلى أنه عُثر عليها في حالة سيئة بعد تسرب مياه الصرف الصحي إليها. وتابع: "فتحنا التابوت بالاستعانة بعدد من العاملين في الآثار بمحافظتي الأقصر وأسوان، ومفيش حاجة اسمها لعنة ولا الدنيا ضلمت ولا حاجة.. دي خرافات". وأشار إلى أن المياه التي عُثر عليها داخل التابوت ليست زئبقًا أحمر، قائلًا: "مفيش حاجة اسمها زئبق أحمر.. وتغير لونها ناتج عن تفاعلها مع المومياوات". قال وزيري أيضا إنه سينقل هذه الهياكل المكتشفة داخل التابوت إلى مخزن آثار متحف الإسكندرية القومي للترميم والدراسة، لمعرفة المزيد عن الهياكل العظمية وسبب الوفاة والحقبة التاريخية التي ترجع إليها. أما التابوت فسيرفع، بعد عمل الترميم الأولي، ليُنقل إلى مخزن مصطفى كامل، بالتعاون مع المنطقة الشمالية العسكرية "الهيئة الهندسية".

بدوره، أكد شعبان عبد المنعم، المتخصص في دراسة المومياوات والهياكل العظمية، أن المعاينة المبدئية للهياكل العظمية تشير إلى أنها في أغلب الظن تخص ثلاثة ضباط أو عساكر في الجيش، حيث وجدت في جمجمة أحد الهياكل العظمية آثار ضربة بالسهم.

أغلقت الآثار ملفاتها، وتحفظت على عهدتها، أتمت المهمة خلف الستائر، بعيداً من عيون "المتطفلين". آثر المسؤولون السلامة، خوفاً من تكرار فضيحة العام الماضي، خصوصاً أن الصور المسربة تقول إنهم اتبعوا الطرق البدائية نفسها. ربحوا مدة جديدة في مناصبهم، وخسرت مصر فرصة ذهبية لاستعادة السياحة. لكن، من يدري، لعل اللعنة تنهي هذا العبث كله.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها