خلال شهر رمضان 1999، تابع الجمهور العربي بشغف مسلسل "أم كلثوم" الذي تناول سيرة "كوكب الشرق" وقصة صعودها إلى القمة. في رمضان الحالي، استعاد المخرج الإذاعي علي عبد الله هذا المسلسل التلفزيوني، وحوّله من الشاشة إلى الميكروفون في تجربة جديدة. شاعت قصة أم كلثوم من خلال هذا المسلسل، وباتت معروفة، إلا ان بعض فصولها تبقى غامضة، ومنها حكاية زواج سيدة الغناء العربي من الملحن محمود الشريف التي شغلت الصحافة في الشهر الأخير من العام 1946، ثم اختفت بقدرة قادر بعد فترة وجيزة.
في 5 كانون الأول/ديسمبر 1946، تحت عنوان "كيف ولماذا تزوجت أم كلثوم؟"، نشرت مجلة "الصباح" المصرية مقالة طويلة تناولت فيها هذا الزواج الذي وصفته بالحدث الكبير. أشارت المجلة في المقدمة إلى عزوف "فنانة الشرق الآنسة أم كلثوم" المعروف عن الزواج، وقالت: "سأل الصحافيون فنانة العصر في كثير من المناسبات هل هي تفكّر في الزواج؟ وما رأيها في الزواج إن تقدّم إليها من يطلب يدها؟ فكان جوابها الدائم وردّها المركّز هو أنها تزوجت الفن ولن تتزوج سواه. من هنا أخذ الناس في مشارق الأرض ومغاربها فكرة تقول إن أم كلثوم لن تتزوج، إما لأنها كرّست نفسها للفن ولا تريد ان يشغلها عن الفن شاغل، وإما لأنها تعتزّ بحب الجماهير لها وهذا الحب يملأ قلبها فلم يعد يتّسع للزواج".
لهذا السبب، اعتبر خبر زواج أم كلثوم حين كشفت الصحافة عنه حدثا استثنائيا، وبات حديث البلد والناس، وراح الكل يتساءل عنه وعن ملابساته. صحيح ان الزواج يُعتبر من الحقوق الشخصية للفرد، "ولكن الناس اعتبروا زواج أم كلثوم حقا من حقوقهم هم، وذلك لأن أم كلثوم تحتل أقدس مكانة في قلوبهم، فهي لهم ومنهم، لأنها تلازمهم في كل لحظات حياتهم بصوتها العذب الشجي، كما تلازمهم الشمس بضوئها وحرارتها".
متى بدأت هذه الحكاية، وكيف تحقّقت؟
بحسب تقرير "الصباح"، لوحظت مقدمات هذا الحدث خلال شهر تشرين الأول/أكتوبر، وبدأ يلوح في الجو في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر، وتحول إلى حقيقة في مطلع كانون الأول/ديسمبر. نشرت الصحافة النبأ، فاهتزت له مصر، وبات حديث زواج أم كلثوم هو الشاغل الأول للناس، وطغى على أحاديث السياسة والوزارة التي استقالت في الفترة نفسها.
كان محمود الشريف من الملحّنين البارزين، وعُرف كملحّن شعبي ممتاز. وكانت أم كلثوم تستمع إلى ألحانه من طريق الإذاعة، "ولكن هذا لم يلفت نظرها بقدر ما لفت نظرها وقفاته في الجلسات التي كان يعقدها في مجلس نقابة الموسيقيين، فهو كان يقف في وجه كل إنسان يريد أن يهضم حق الموسيقي، حتى انها خرجت بعد إحدى الجلسات تقول: والله محمود هو اللي راجل". أخذ هذا الإعجاب منحى جديدا حين قصدت المطربة الذائعة الصيت طبيبها الخاص في خامس أيام عيد الأضحى، فكلّمها بحذر بعد تردّد، وقال لها: "اسمعي مني، ليس الفن كل شيء، وليس المال هو كل شيء". ففهمت ما يرمي إليه، وسألته: "يعني أتجوّز بالعربي"، فأجابها: "بالضبط". فخرجت من العيادة، وذهبت الى نقابة الموسيقيين، وسألت عن محمود الشريف، "وجلست معه على انفراد لأوّل مرة، وطلبت إليه أن يُسمعها بعض ألحانه الجديدة. شكلت هذه الجلسة مقدمة لجلسات أخرى حضر معظمها المذيع محمد محمود شعبان والملحّن القديم محمد افندي نبيه، وتبعتها لقاءات في بعض مقاهي شارع الهرم، وفي لقاء عُقد في 21 تشرين الثاني/نوفمبر، سأل الملحن المطربة: "إيه رأيك لو نتجوز بسنة الله ورسوله؟"، فأجابته على الفور: "ما عنديش مانع يا محمود، هو انت مش راجل زي كل الرجالة، وأنا ست زي كل الستات. انت أول فنان كانت عنده الجرأة يطلب مني الطلب ده".
تمنّى محمود الشريف يومها أن يتم الزواج فورا، تيمناً بالعام الهجري، لكن أم كلثوم رفضت ذلك، كونها تتشاءم من العشرة الأيام الأولى من شهر محرم، وحددت للزواج في يوم 11 محرم الموافق للخامس من كانون الثاني/يناير 1946. قصدت أم كلثوم أحد الصاغة، واشترت خاتمي الخطوبة، وكُتب على أحدهما "لا إله إلا الله"، وعلى الثاني "محمد رسول الله"، وقدّمت الخاتم الأول إلى محمود الشريف فلبسه، ولبست هي الخاتم الثاني. وخشيت أن تلبس الخاتم في حفلتها الشهرية يوم الخميس 11 محرم قبل الإعلان رسميا عن الزواج، إلا ان محمود الشريف صمّم على ان تلبسه، ولاحظ الجمهور انها كانت تخفي الخاتم بالمنديل الأخضر الذي تمسك به كعادتها في وصلتها الغنائية، وأنها ظلت تمسك بهذا المنديل في فترة الاستراحة حتى لا يرى أحد ممن يقابلونها الخاتم، ويعمد إلى تهنئتها.
بلغ نبأ الزواج العالم العربي، ونشرت مجلة "الجمهور" اللبنانية تحت عنوان "كن كيفما شئت يا حبيبي"، مقالة رصدت فيها ما كتبته الصحف عن هذا الحدث، وهاجمت كل من لم يقف إلى جانب أم كلثوم في هذا الظرف، وأضافت في تعليقها: "في مصر رجال شرّفوا الوسط الفني، وأنقذوا سمعة الفن من تلك الطفيليات. هؤلاء هم محمد عبد الوهاب، وصالح عبد الحي، والشيخ زكريا أحمد، ومحمود بيرم التونسي، ويوسف وهبي. لقد قال كل منهم كلمته في هذا الموضوع، فكانت كلمة الفن الخالصة". وختمت المجلة اللبنانية تحقيقها بالقول: "ستصحو مصر والبلاد العربية على صوت أم كلثوم تغنّي لمن وهبته قلبها وحبها: كن كيفما شئت يا حبيبي/ لا كان من في هواك يصدّني".
في الواقع، تفادت مجلة "الصباح" في مقالتها أي إشارة إلى كون محمود الشريف متزوجا من سيدة من خارج الوسط الفني تُدعى فاطمة، وأن أم كلثوم باتت زوجته الثانية، وهو الأمر الذي أثار الذين تجاسروا وانتقدوا هذا الزواج. في منتصف شهر كانون الثاني/يناير 1947، قيل إن أم كلثوم ستغنّي من ألحان محمود الشريف قصيدة من نظم ابراهيم ناجي، مطلعها: "أصبحت من يأسي لو ان الردى/ يهتف بي صحت به هيا". ويقال اليوم ان أم كلثوم طلبت من محمود الشريف أن يلحّن لها قصيدة بيرم التونسي "شمس الأصيل" في بداية تعارفهما، وأن الشريف لحّن بالفعل هذه القصيدة التي غنّتها أم كلثوم بلحن رياض السنباطي سنة 1955. والأكيد أن أم كلثوم لم تغنِّ أي لحن من ألحان محمود الشريف، وأن قصة زواجها من الملحن اختفت إعلاميا بسرعة بعد مرور شهر من الزمن، عادت بعدها أم كلثوم لتُعرف بـ"الآنسة"، كما في السابق.
بعد مرور سنوات، تطرّق محمود الشريف إلى هذه القصة في حوار معه نشرته مجلة "اهل الفن" في 21 أيار/مايو 1955، وذلك بعد زواج أم كلثوم رسميا من الطبيب حسن الحفناوي في أيلول/سبتمبر 1954. قال الملحن إن قصته مع أم كلثوم "كانت سحابة صيف"، وأوحى بانها لم تتعدَّ مرحلة الخطوبة، وأضاف: "انني لا أحب أي حديث عن أم كلثوم، حتى الراديو لا أفتحه حين تغنّي أم كلثوم. انني أعيش وزوجتي وطفلتي في سعادة وهدوء، ثم ان الدكتور الحفناوي صديق عزيز، وكان يعرف انني أعرف أم كلثوم، وبعد أن تركت أنا أم كلثوم بمحض اختياري إذا بي أعلم أنه بات زوجا لأم كلثوم، وكان معي قبلها مدة شهرين بمنزلي، والذي أدهشني منه أنه كتم الخبر عني اعتقادا منه ان ذلك يهمّني، مع انه بالعكس لم يثر اهتمامي، بل لعله أسعدني".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها