الخميس 2018/06/07

آخر تحديث: 11:01 (بيروت)

هوامش على الفتح..قل دخل العرب مصر ولم يدخلها الإسلام

الخميس 2018/06/07
هوامش على الفتح..قل دخل العرب مصر ولم يدخلها الإسلام
ملكها لمن سلب، وهي لمن غلب.
increase حجم الخط decrease
"نيلها عجب وأرضها ذهب، وخيرها جلب، وملكها لمن سلب، ومالها رغب، وفي أهلها صخب" وطاعتهم رهب، وسلامهم شغب" وحروبهم حرب، وهي لمن غلب". -مؤرخ عربي

في القضية المثارة دائما في مصر.. هل كان دخول العرب مصر، فتحا أم غزواً؟ كنا نجد استنكارا جاهزا يرتسم على الوجوه، ويدفعنا إلى الانحياز إلى الرواية الرسمية التي تقول إن مجيء العرب إلى مصر تحت راية الإسلام، لنشر الرسالة، لم يكن إلا فتحاً، وهذه هي الرواية التي يجب أن نصدقها، ونتلقاها، ونلقنها لأبنائنا.

إلا أن في كتاب سناء المصري "هوامش على الفتح العربي"* رواية أخرى تختلف عن الروايات التي تلقيناها في مناهج التعليم المصرية، وربما يبدو الصادم في الرواية الجديدة التي تلقيتها، هي أن العرب غزوا مصر، لكن الإسلام لم يدخلها مع ذلك.

وكتاب سناء المصري، مقسم إلى جزئين، الأول "حكايات الدخول" والثاني "رحلة الانصهار" وهو الجزء الذي لم ينشر في الطبعة الأولى عام 1996، وتوفيت المؤلفة دون أن تكمل دراستها عام 2000. في الجزء الأول أشارت إلى أنها درست أحداث القرن الأول الهجري وبداية القرن الثاني، حتى سقوط الدولة الأموية عام 132 هجرية، لأنها الفترة التي شكلت مقدمة الانصهار الإجباري. وتمهد المؤلفة لدراستها باستعراض أحوال المصريين تحت حكم البيزنطيين وأوضاع الفلاحين وأقباط مصر الذين كانوا يستأجرون مساحات من الأرض، ويزرعونها، لقاء قدر معلوم من الضرائب، يجمعها حكام الأقاليم ويرسل بعضها إلى الإسكندرية ومنها إلى عاصمة الدولة البيزنطية في ما يسمى بالشحنة السعيدة، وكان الفلاح يدفع عن المحاصيل الأخرى ضرائب نقدية، إضافة إلى الضرائب العامة التي تشترك القرية كلها في دفعها.

وعانى المصريون تحت حكم الرومان أو المقوقس من الاضطهاد حتى فر الأنبا بنيامين بابا الكنيسة المصرية ومعه سائر الأساقفة إلى أديرة الصحراء، وقبض جنود المقوقس على شقيق الأنبا بنيامين وعذبوه بالحرق حتى سقط لحمه، ومات.

ولكن قصص الاضطهاد تلك لم تنته بوصول العرب، وهو ما يجعلني أقول أن الإسلام لم يدخل مصر مع دخول العرب. تحكي سناء المصري في ثاني فصول كتابها عن وقائع الفتح، وسير الفاتحين مستعينة بالمؤرخين العرب ومنهم الواقدي أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد السهمي من كتابه فتوح الشام، وكذلك المؤرخين الأقباط. وتتطرق المؤلفة إلى مظاهر البذخ التي غرق فيها العرب بعد إتمام القضاء على الرومان وسقوط الإسكندرية في قبضتهم. تقول: ثار كثير من الفتن والقلاقل في ما بين العرب ونظر أصحاب العطايا الأقل إلى من يستحوذون على منابع الثروة. ويذكر المؤرخ العربي "البلاذري" نبذة عن مدى التفاوت في تقسيم العطاء الذي جناه العرب بعد انتصارهم على الرومان وتمام سيطرتهم على مصر: لكل رجل ما بين ألفين إلى ألف إلى تسعمائة إلى خمسمائة، إلى ثلاثمائة ولمن ينقص أحدا عن ثلاثمائة".

وتورد سناء المصري حكاية مصدرها المؤرخ "القلقشندي" من كتابه "صبح الأعشى في صناعة الإنشا" استخدم عمرو بن العاص نفوذه في جمع ثروة طائلة، حتى بعث الخليفة عمر بن الخطاب يسأله عن مصدرها بقوله: بلغني أنك فشت فاشية من خيل وإبل فاكتب لي من أين لك هذا المال؟

واعترف عمرو بن العاص بثروته التي جمعها بعدما تحققت له السيطرة على مصر، وتسأل المؤلفة: من أين جاءت؟ هل كان يزرع قطعة أرض؟ أم كان الأقباط يزرعون له أرض مصر كلها؟

ولم يصدق عٌمر بن الخطاب حجج عمرو، فبعث إليه محمد بن مسلمة يقاسمه أمواله، ومعه رسالة عنيفة يقول له فيها: إنكم معاشر العمال قعدتم على عيون الأموال فجبيتم الأحرام وأكلتم الحرام وأورثتم الحرام"، وقاسمه ابن مسلمة كل ممتلكاته، فقال عمرو بن العاص ساخطاً: قبح الله يوما صرت فيه لعمر بن الخطاب واليا".

وحينما استدعى عٌمر بن الخطاب عمرو بن العاص إلى المدينة، وجده وقد صبغ رأسه ولحيته بسواد، فقال عٌمر: من أنت؟ فرد: أنا عمرو بن العاص، فقال عٌمر: عهدي بك شيخا وأنت اليوم شابا، قد عزمت عليك إلا ما خرجت فغسلت هذا.

وكما جمع عمرو بن العاص ثروة بعد فتحه مصر، جمع كل وُلاة مصر ثروات، وتورد سناء المصري قصصا أخرى عن ثروة الزبير ابن العوام، الذي أصبح يمتلك خطة في الفسطاط، وخطة في الإسكندرية ودارا في الكوفة، ودارا في البصرة... كايات الكتاب على هذا المنوال، تحكيها المصري بأسلوبها، إلا أنها تضع أمام ذهن قارئها المصادر العربية، فلا يمكن أن يتسلل إلى قلوبنا شك في الحكايات، وتمر على أحداث الفتنة الكبرى، التي اندلعت بين ولاة عثمان بن عفان على مصر، ابن أبي سرح في مصر، وبين بعض أمراء العرب من الجند اليمانية من مصر، الذين تذمروا من محاباة ابن أبي سرح وعدم العدل في تقسيم الثروات فخرجوا إلى المدينة، بدعوى الحج، لكنهم مضوا إلى المدينة وحاصروا بيت الخليفة عثمان بن عفان.

تحكي سناء المصري أن الثائرين بينما هم في طريقهم من مصر إلى المدينة، قابلوا رسولا أرسله الخليفة إلى ابن أبي سرح واليه على مصر، يطلب منه القبض على الثائرين، وقتل زعمائهم، فازدادوا غضبا، ومضوا إلى المدينة حيث حاصروا عثمان في بيته، وكان مقتله.


تلفت مؤلفة الكتاب أن المؤرخين العرب أطلقوا على العرب الذين اتخذوا من مصر محلا للإقامة بـ"أهل مصر" دون أن يقصدوا بذلك أهلها الحقيقيين من الأقباط، وتقول إن أحوال الأقباط في عهد الحكم العربي، لم تتغير، بل ربما ازدادت وطأة وقسوة عنها في عهد الرومان، وهو ما يكذب الرواية الشائعة أن العرب فتحوا مصر، لنشر الإسلام، فالذي يقرأ كتاب سناء، ومنهجها في البحث الذي اعتمدته في البحث عن نقاط الإلتقاء بين المؤرخين العرب والأقباط "ساويروس بن المقفع" و"يوحنا النقيوسي" يكتشف أنها استخلصت العديد من العبر والحكايات، أبرزها أن مصر كانت دائما "نهيبة" لمن يحكمها، أو من يغزوها، فعمرو بن العاص تمسك بنظام الرومان في جباية الضرائب، وإحلال القبط محل الروم في الوظائف، وتمسكت الأرستقراطية العربية بعزلتها عن بقية الملل والطوائف كنوع من أنواع الترف والتعالي على الشعب المصري الذي يزرع الأرض، فاحتفظ العرب بمهام الحرب والحكم والسياسة، وكان  عمر بن الخطاب ينهي العرب عن الزرع، كي لا يذلوا، ولا ينشغلوا عن الجهاد، حتى أنه عاقب رجلا عربيا أراد أن يزرع، وأمر عمرو أن يرسله إلى المدينة ليعاقبه.

لم تكن العزلة وحدها هي نصيب المصريين بل في زمن قرة بن شريك، زادت وطأة الضرائب عليهم وكان الناس يهربون من موضع لموضع، فأمر قرة فجمع الذين يهربون، وردهم وربطهم ومعاقبتهم، وكان المصريون يهربون إلى الأديرة المعفية من الضرائب، فأمر الرهبان ألا يأووا أي شخص يريد أن يدخل سلك الرهبنة، ووصل به الأمر أن وضع علامات تمييز قاسية على جسد الرهبان.

وتشير سناء إلى جنون الاستنزاف لخيرات مصر الذي سيطر على خلفاء الدولة الأموية، ونصحهم لولاتهم على مصر بأن يحلبوها، وتكرار وصف مصر بالبقرة الحلوب، فوصية الخليفة سليمان بن عبد الملك لأسامة بن زيد التنوخي متولي خراج مصر، تقول: احلب حتى ينقيك الدم، فإذا أنقاك الدم، حتى ينقيك القيح، لا تبقيها لأحد بعدي أي لا تكتفي بمجرد حلب اللبن، فطالب متولي الخراج بحلب الدم، ثم لا يكتفي بحلب الدم، فيطالبه بحلب صديد الجروح العميقة، حتي يترك البقرة جثة هامدة.

تكشف المؤلفة أن المقريزي، تطرق هو أيضا إلى أن أسامة بن زيد متولي الخراج عمل بنصيحة الخليفة الشره، فجمع ما استطاعه من أموال، وبعثها إليه، وعلق المقريزي بأنه عمل فيها عملا ما عمله فرعون، واشتد على نصارى مصر، وأمر بقتلهم، وأخذ أموالهم.

كما تتحدث سناء عن نظرة العرب التي تحتقر المصريين مع تمجيدهم لثروات بلدهم، وخيراتها، فالخليفة معاوية بن أبي سفيان قسم أهل مصر إلى ثلاثة أصناف: ثلث ناس، وثلث يشبه الناس، وثلث لا ناس، فأما الثلث الذين هم ناس، فهم العرب، والثلاث الذين يشبهون الناس، فهم الموالي، والثلث الذين لا ناس، فالمسالمة، أي القبط.

ولمؤلفة الكتاب كل الحق في أن تستنكر تلك المفارقة بين إعجاب العرب بالأرض، وشدة التحقير لسكانها، فمصر التي يراها عمرو بن العاص شجرة خضراء، أو لؤلؤة بيضاء، أو عنبرة، أو زمردة، وجميعها تشبيهات مستمدة من الجواهر النفيسة الخلابة للعيون والساحرة للنفوس، يكون أهلها من وجهة نظره: أهل ملة محقورة، وذمة مخفورة، وعلى الرغم من أنهم يحرثون له الأرض، ويمارسون شتى أعمال الفلاحة والزراعة من أجل غيرهم، وليس لهم رأي في شؤون السياسة، فهم في نظره في وضع الخسيس، ويقرر عمرو بن العاص سياسة السيطرة على البلاد: ألا يقبل قول خسيسها في رئيسها، وألا يستأدى خراج ثمرة إلا في أوانها.

وكما بدأنا سطور هذا المقال بمقولة المؤرخ العربي، التي امتدح أرضها الذهب، وذم أهلها الذين تكون طاعتهم رهب، أي خوفا وجبنا، ننهيه بالتعجب من أن شطر المقولة الثاني لم يزل واقعا ماثلا: ملكها لمن سلب، وهي لمن غلب.
(*) أعادت دار الكرمة للنشر إصداره في القاهرة، بعد طبعة صدرت عام 1996
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها