الأحد 2020/08/09

آخر تحديث: 10:08 (بيروت)

انفجار بيروت الذي دوَّى في القاهرة

الأحد 2020/08/09
انفجار بيروت الذي دوَّى في القاهرة
عصف الانفجار
increase حجم الخط decrease
تنفجر بيروت.. فيصبح انفجارها "تريند" مصري على تويتر.
ينفجر مرفأ(ميناء حسبما نفهم في مصر) بيروت.. فتجتاحنا الكوابيس، ونشعر أن الذي انفجر، هو ميناء بالإسكندرية.. أو بدمياط، أو بالعين السخنة.

دوَّى الانفجار في القاهرة.
يتحول ألم بيروت وجرحها الدامي، إلى جرح محلي، وكأن الانفجار قد وقع أمام عتبة البيت، وليس على بعد آلاف الأميال.

بيروت ليست مجرد عاصمة الجمهورية اللبنانية، بل هي في قلب الثقافة المصرية، ولا مدينة عربية حازت نفس مكانتها، وارتبط بها المصريون حتى الذين لم يذهبوا إليها، إلا مدن الحج.
إن كان المصريون قد عرفوا مكة والمدينة المنورة منذ ظهور الإسلام، فذلك لأنهما مدينتان يُشدُ إليهما الرحال لأداء شعيرة الحج الإسلامية.

أما بيروت، فارتبطت في الذهنية المصرية منذ القدم، منذ العهد الفينيقي، وتشكلت أسطورتها في أوساط المثقفين والسينمائيين والصحافيين المصريين.

ارتبط اسم بيروت بالثقافة المصرية، وكأن المصير واحد، القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ، قالها طه حسين، معبرا عن حالة التكامل بين مصر والشام والعراق، وهكذا كبرنا ونحن نعرف أن بيروت هي التي تطبع، وهي التي تكتب أيضا، بل إن الكتاب الوحيد الذي طبعه نجيب محفوظ خارج مصر، طبعته له بيروت.

كبرنا على حلم الذهاب والسفر إليها، كبرنا واسمها يتردد بين جوائحنا، كبرنا نرى صورها وفتنتها في الأفلام الأبيض والأسود، صخرة الروشة، موعد للحب وللقاءات الغرام.

كتب عنها الشاعر الإغريقي نونوس البانوبوليسي:
"ربّ مدينة تدعى بيروت، موئل الحياة، مرفأ ألوان الحب واقعة على البحر فيها جزر جميلة وأشجار ظليلة، ليست حدّ برزخ ضيق دقيق... بل إنها تتمدد الى الجهة الشرقية الحارقة عند قدمي جبال لبنان السورية المكسوة بالغابات... بيروت أمل الحياة، حاضنة المدائن، شرف الملوك، الرؤيا الأولى، شقيقة الدهر، مواكبة الزمن، عرش هرمس، حمى العدالة، مدينة المشرعين، دار أمزوزينيا، منزل أفروديت، بيت الهوى، نجمة بلاد لبنان".

قارىء "تاريخ بيروت" لسمير قصير، يعرف أنها مدينة كريمة ومناضلة، وسيئة الحظ إلى حد كبير، مدينة وقعت على خط المواجهات بين الاحتلال الصهيوني الرامي لزعزعة استقرارها، لأنها المدينة التي فتحت ذراعيها للاجئين الفلسطينيين، بين عامي 1969 و1973، وما شهدته أحداث المواجهات مع الفلسطينيين في الأردن، وغلق الجبهة السورية أمام العمليات الفدائية الفلسطينية، أصبح لبنان فضاء الحرية الوحيد المتاح للمقاومة الفلسطينية، وتدفق إلى أراضيه المقاتلون الذين طردوا من الأردن، ولكن هذا نفسه ربما كان سوء الحظ الذي كان سبباً من بين أسباب عديدة أدت إلى اشتعال الحرب الأهلية.

وفي زماننا هذا، وعينا على حرب واجهت فيها بيروت بشجاعة الألة الإسرائيلية التسلطية بكل جبروتها، العام 2006، كنا شباباً لا نفهم جيداً في الشأن اللبناني، كل ما نفهمه أن هذه المدينة الباسلة تُدك لأن حزب الله يختطف جنوداً إسرائيليين، لا نفهم تحديداً معنى أن تدمر البنى التحتية للمدن من أجل خطف جندي، لكننا كنا نصفق بسذاجة للمقاومة الباسلة، دون أن نعي بالضبط مدى جثوم حزب الله على صدر اللبنانيين، وأكذوبة شرعية وجوده على الخريطة السياسية اللبنانية.

بيروت... اسم المدينة الذي حملته رواية صنع الله إبراهيم "بيروت بيروت، كأنه في هذا التوكيد اللفظي، يودِع المدينة كل حبه لها، ويجعلنا نردد اسمها مرتين كلما استدعينا روايته لحديث أو مناقشة أدبية عابرة، سيفعل ربيع جابر نفس الشيء، حينما يسمي روايته "بيروت مدينة العالم" وسيشدنا الفضول، لمعرفة، كيف تصبح بيروت، هي مدينة العالم، لكنها ستظل مدينة تعيش في أسماء الكتب، وفي القصائد، وفي الأغاني، وفي الأشعار، مدينة تحارب وتقاتل منذ عقود، تتلقى الضربات، ويقصفها الكل، ولا تنمحي عن أية خارطة، بيروت المخلدة بقصيدة لنزار قباني "يا ست الدنيا يا بيروت":
ماذا نتكلم يا بيروت
وفي عينيك خلاصة حزن البشرية
وعلى نهديك المحترقين.. رماد الحرب الأهلية
ماذا نتكلم يا مروحة الصيف، ويا وردته الجورية؟

وأنا أكتب سطور هذا المقال من أجل بيروت، وعلى أثر الانفجار المروع، تذكرت رواية "تقرير ميليس" لربيع جابر، الرواية التي تدور أحداثها حول انفجار آخر، انفجار مشابه إلى حد كبير لهذا الانفجار الجديد، لكن الانفجار القديم أودى بحياة زعيم المدينة، رفيق الحريري، الرجل الذي كان يطمح أن تكون المدينة درة من درر الشرق، يقول ربيع جابر في الثلث الأخير من الرواية:
"بيروت الثلثاء 18 تشرين أول أكتوبر – ينتظر اللبنانيون صغيرهم وكبيرهم بلهفة صدور التقرير النهائي الخاص بالتحقيق في مقتل رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، والذي يعكف المدعي العام الألماني ديتليف ميليس على إعداده ويتساءلون ما إذا كان التقرير سيكشف عن الحقيقة كاملة أم لا".

يتزامن الانفجار الجديد، مع انفجار قديم، لا ننساه أبدا، انفجار استهدف موكب رفيق الحريري قبل 15 عاما، وحين تسمع في النشرات التلفزيونية عن كم المتفجرات التي حُضرت لقتل شخص واحد، نافذ، قوي، تدرك مدى خطورة منفذي الاغتيال، وضراوة الإصرار على القتل، تسأل نفسك كما فعلت آنذاك:
كيف كان رفيق الحريري شديد الإزعاج لخصومه؟ لدرجة أن يحضروا له هذه الميتة؟
حزب الله، الذي يُدان أربعة من رجاله في هذه القضية، لطالما نفى الاتهامات، أما واقعة الاغتيال نفسها، فقد غيرت خريطة لبنان السياسية، على الأقل دفعت لخروج القوات السورية من بيروت بعد 30 عاما من الوصاية الأمنية والسياسية.

الانفجار الجديد، الذي استهدف مرفأ بيروت، المرفأ الذي كان حلماً للبيروتيين، ومصدراً لأكثر من 70% من حركة التبادل التجاري مع دول العالم، يبدو كما لو كان حلقة من سلسلة انفجارات، كتب عنها ربيع جابر في مستهل روايته "تقرير ميليس"، يقول:
"انتهت الحرب في 1990. أثناء الحرب انقسمت المدينة إلى مدينتين. قتل مئة ألف إنسان. وخطف نحو عشرين ألفا. منذ 1990 والأحوال تتحسن. خلال هذه الأعوام أعادت سوليدير شركة رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري بناء وسط بيروت التجاري. هذه العملية تعتبر من أكبر مشاريع الإعمار في العقود الأخيرة. يجوز مقارنتها بما جرى في مدن أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. واجه المشروع معارضة قوية. مع هذا لم تتجدد الحرب، ولم تتجدد الانفجارات حتى الأول من تشرين أكتوبر 2004، هذا التفجير اعتبر إنذارات للرئيس الحريري وحلفائه".
انفجار بيروت الذي دوَّى في القاهرة، يصرعنا جميعا، تصرعنا فكرة أن ينمحي البشر الذين ارتبطنا بهم لعقود، الذين ساهموا في نهضة فنية وسينمائية وثقافية وأدبية، وصحافية، جرجي زيدان مؤسس دار الهلال، بشارة وسليم تقلا، مؤسسا الأهرام، ثم تولى رئاسة تحريرها داود بركات، الصحافي اللبناني الذي جعلها الأوسع انتشاراً في الثلث الأول من القرن العشرين، المقتطف التي أسسها يعقوب صروف، وفارس نمر في بيروت، ثم نقلاها إلى القاهرة، فانتظم صدورها في مصر منذ 1888، فاطمة اليوسف، التي أسست روزاليوسف وأنجبت لمصر أبرع مبدعيها إحسان عبد القدوس، ويوسف الخازن، أول من أسس صحيفة الأخبار، بالتعاون مع داود بركات، العام 1892، قبل أن يبيعها العام 1902، إلى أمين الرافعي، الذي اشترى رخصتها، قبل أن تؤول ملكيتها أخيرا إلى الأخوين مصطفى وعلي أمين، وهناك أديب اسحق، وسليم النقاش اللذين أصدرا جريدة مصر، ثم جريدة التجارة، وقدما أول عروض مسرحية بممثلين محترفين باللغة العربية في مصر.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها