السبت 2018/06/30

آخر تحديث: 10:44 (بيروت)

حين تقول الثقافة إنها جزء من الإقتصاد

السبت 2018/06/30
حين تقول الثقافة إنها جزء من الإقتصاد
أن تلك الثقافة في الواقع لا تتصل بالسوق سوى من باب ظلاميته
increase حجم الخط decrease
من وقت إلى آخر، يظهر في الخطاب الثقافي الشائع بواسطة مؤسساته في البلاد مقولة مفادها أن أعماله على أنواعها تندرج في دورة إقتصادية محلية، تنشط عجلتها بعد أن تحل فيها كمنتجاتٍ تصل إلى جمهورها الذي يتلقاها بطريقة تختلف عن طريقة تلقيه للمنتجات الأخرى.


على أن هذه المقولة، ومع أنها في لحظة معينة تبدو مسنودة بالصراحة، صراحة الإعلان عن كون تلك الأعمال مرتبطة بأسواقها، أو بمحاولة تشييد هذه الأسواق، إلا أنها تنطوي على أمرين. الأول، وصول خطابها، وبالتالي، ثقافته، إلى حالة  من الإنهيار، حيث يتسم بالعدمية، والثاني، ميل هذا الخطاب إلى التمسك بانهياره على أساس أنه يريده، وأنه يتمكن منه، وذلك، من خلال المبالغة في إدعاء تحقيقه.


فحين تقول الثقافة: "أعمالي منتجات، وأنا جزء من الاقتصاد"، من ناحية، تقول بلسان معدوم الحيلة: "لم يعد لي دور سوى أن أستسلم لنظام الاقتصاد"، ومن ناحية ثانية، تقول بنبرة الزعم المضخمة بالمغالاة: "أنا أجد مكاني في هذا النظام، وأنجز رغبتي داخله على أكمل وجه". الإستسلام لذلك النظام، وقبل أن يشير إلى طغيانه، يشير إلى وهنها، وقبل هذا، يشير إلى فقدانها لمشاريعها ولبرامجها، ما المطلوب من الثقافة في لبنان؟ هذا السؤال، إما، لا أحد يطرحه، أو أن طارحيه يمضون إلى تحديد إجابته سلفاً، وذلك، لأن هذه الإجابة تُسَيِّل وتُسَيِّر قبل أن تتزاحم مع غيرها.


خلال التسعينات، حددت الثقافة، وقبل طرح السؤال، إجابة الحرب والذاكرة وإعادة الإعمار إلخ. وفي الألفية الثالثة، أضافت عليها إجابات أخرى من قبيل الهوية والمنفى... وهكذا، تتراكم الإجابات، ولكن، بلا أن تكون مسبوقة بسؤال، فهي ليس بحث فيه، ولهذا، تفضي جميعها إلى تبددها لتميط اللثام عن غيابه الذي، ولما يشتد، يؤدي إلى الهبوط.


فصل من فصول إنهيار الثقافة هو مسعاها إلى أن تستمد وجودها، أن تشغل حضورها، بالإنطلاق من استسلامها لنظام إقتصادي، معلومة عطالته، وهو، فعلياً، بمثابة استسلام لأنها لا تتوجه إلى النظام إياه متينة ومتماسكة، بل مفرغة ومسلوبة، ونتيجة ذلك، يصبح القبض عليها، تماهيها معه، سبيل نجاتها. كأن الثقافة تبغي أن تكون جزءا من الاقتصاد لأنها، وإذا لم تفعل، تتجمد، وفي حال فعلت، سيدفعها الوضع إلى أن ترى شيئاً بعينه، وهو أن محلها مفقود، وأن اختراعها له يستلزم ألا تتحول على شاكلتها إلى جزء من أي دورة أو مجال، بل، على العكس، أن تتوقف عن الإمتثال للعديد من الدورات والمجالات، التي ابتلعتها. فقبل أن تكون جزء من الاقتصاد مثلاً، عليها أن تكون جزء من نفسها، فبهذا، لا تكون جزء من غيرها، بل معه، وبهذا، لا تعود آلية اتصالها به الوحيدة هي الإنقياد.


وفي سياق الإنهيار نفسه، وحين تستسلم الثقافة للإقتصاد، لا تقدم على ذلك على أساس أنها في حال حسنة، إذ تدعي أثراً ومفعولاً، بالإضافة إلى أنها تصدق براعتها في  فبركة منتجاتها أيضاً. ولكن، المتابعون لإنتاجها يدركون أنها، وحتى بعد ادراكها لارتباطها بسوق ما، لا يحثها هذا الادراك على العمل وفقه. فصحيح أن للسوق ظلاميته، إلا أن هذا لا يلغي بعض اللمعان فيه وحوله، كما أن قواعده قد تكون سبيلاً إلى ما يسميه "التطوير الإبتكاري" على الأقل. إلا أن تلك الثقافة في الواقع لا تتصل بالسوق سوى من باب ظلاميته، التي تجعلها تعتم، وتغلق. فلما يغدو لها إقتصاد، وهو ظل من ظلال الدورة الاقتصادية الكبرى، يكون متقهقرا، بدون نمو، وكاسدا، ودائرا على ذاته، لدرجة بيانه على تأرجح متداخل بين القحط والإسراف. فعندما تسرف الثقافة، فلتنفي قحطها، وعندما يبرز قحطها بشدة، تسرف من جديد، وكل ذلك، لكي لا ترتطم بإفلاسها.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها