الثلاثاء 2018/06/12

آخر تحديث: 11:28 (بيروت)

قراءة في صحف 1990..عندما هزم المنتخب المصري العلاوة!

الثلاثاء 2018/06/12
قراءة في صحف 1990..عندما هزم المنتخب المصري العلاوة!
قال الجوهري إن المنتخب المصري يلعب بـ"أداء عربي"
increase حجم الخط decrease
عام 1990 نجح المنتخب المصري في الصعود إلى نهائيات كأس العالم، منهيا 56 عاما من الغياب. انجاز رياضي كبير بكل تأكيد، لكنه كان في الوقت نفسه بمثابة طوق النجاة للنظام السياسي! 

كان مبارك قد اقترب من إكمال سنواته العشر الأولى في حكم مصر. تبخرت آمال التغيير والإصلاح وانتهت شهور العسل القصيرة التي صاحبت الفترة الأولى، ودخلت السياسة وربما مصر بكاملها في حالة من الجمود، يعززها غياب المشروع القومي، وغياب الرغبة السياسية والإرهاق الاقتصادي الكبير.

الاحتلال، وتحرير الاقتصاد، ومقاومة التدخل الأجنبي، ودعم الحركات العربية، قضايا أغرقت سابقيه في تفاصيلها، وانتهت حتى قبل أن تصل إليه. طابا، القضية الوحيدة التي ظلت معلقة. وبعد إتمامها، والسيطرة الأمنية على أركان الدولة ومفاصلها الهامة، بدا وكأنه لا يوجد ما يستحق الكفاح من أجله، وبدا المشروع الأساسي للحكومات المتعاقبة هو تثبيت الأمر على ما هو عليه، والفوز بأكبر قدر من الغنائم المتاحة، وبعد أقل من 10 سنوات تأكد المصريون أن مبارك لا ينوى تصحيح أخطاء الماضي، وربما تأكدوا من أنه لا ينوي فعل أي شيء على الإطلاق.

واصل مبارك السير في سياسة الانفتاح الاقتصادي وتشجيع الاستثمار، والتحول نحو اقتصاد السوق، والتي شملت تقليص دور القطاع العام تدريجياً، والتحول إلى القطاع الخاص مع الإبقاء على دور الدولة في إدارة الاقتصاد الكلي. لكن كان مبلغ خدمة الدين المستحق على مصر قد ارتفع إلى 6 بليون دولار، أي ما يمثل 54% من قيمة جميع صادرات مصر من السلع والخدمات، ضاقت بشدة فرص الاقتراض التجاري أو الرسمي المتاحة، وبدأت الحكومة تواجه صعوبات شديدة في تمويل بعض الواردات الأساسية من المواد الغذائية.

تزايدت معدلات الهجرة، وزاد الاغتراب الداخلي، وتنوعت أشكال الاكتئاب، وفي ظل هذا المناخ الخانق صعدت مصر الى كأس العالم للمرة الثانية في تاريخها بعد غياب طال 56 عاما. وجهات نظر عديدة رأت أن النظام السياسي تشبث بالفرصة لإلهاء الناس عن الأزمة الاقتصادية وانسداد الأفق السياسي، غير إن رؤية أخرى تقول إن الناس هم من انتهزوا الفرصة ليلهوا أنفسهم عن حالة الجمود والملل تلك، وكنافذة أخيرة لتحقيق الأحلام المجهضة.

قراءة متأنية في الصحف اليومية القومية عام 90 تفهمنا ببساطة كيف تعامل النظام مع الفرصة التي كانت بمثابة هدية ومنحة من السماء. 
متغير جديد.. عبور جديد!
مع الساعات الأولى للعام الجديد، وفى يوم بارد من أيام يناير استقبل الرئيس مبارك الأمير القطري الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، وبعدها بأيام استقبل أمير الكويت، ثم الشيخ زايد في أسوان، والقذافي في القاهرة، ولم يكن ينتهي يناير حتى استقبل الرئيس العراقي صدام حسين ومنحه قلادة النيل.
بدا وكأن شيئا ما يحدث، لكن الصيغ الصحافية لهذه اللقاءات كلها لم تكشف عن شيء، كانت واحدة تقريبا، الجمل نفسها تتكرر مع كل لقاء جديد، يمكن فقط استبدال الصور والأسماء، فكلها لتعزيز العلاقات الثنائية وتثبيت أواصر الصداقة، والتأكيد على أن الحوار هو السبيل الوحيد لحل القضية الفلسطينية التي ربما لم تناقش في اللقاء من الأساس، وأخيرا التأكيد على حكمة  مبارك وحسن إدارته للأمور كافة.

على الناحية الأخرى كان المواطنون قد تعودوا على هذه الصيغ المملة والمكررة في أكبر الصحف، الوجبة نفسها تقدم لهم يوميا فاعتادوها حين فقدوا الأمل في تغييرها، لذا لم يكن لهذا النشاط السياسي أي صدى عند 55 مليون مواطن عدد سكان مصر وقتها، وكأنها أمور تحدث في مكان آخر.

في الوقت نفسه بدأت أخبار الرياضة على استحياء تزاحم الأخبار السياسية المعتادة على الصفحات الأولى، وبالتدريج أصبحت أخبار المنتخب الوطني لا تغيب تقريبا عن الصفحات التي اعتادت الصحف تخصيصها لتحركات الرئيس والحكومة، مع بداية العام تغيرت أيضا طبيعة الموضوعات المطروحة للجمهور وفقا للمتغير الجديد، حيث نشرت الصحف توقعات العاملين في المجال الرياضي للعام الجديد، وبخلاف أعوام سابقة كانت تلك التوقعات مخصصة للنفاق السياسي، تحدث الجميع عن أمنياتهم بأن يصل المنتخب للدور 16 وأن يحقق نتائج طيبة في المونديال وأن "يشرف" مصر في المحفل العالمي.

حتى الصحف العالمية بدأت التعريف بالمنتخب المصري باعتباره "المجهول" الوحيد في مجموعته، بعضها حاور المصريين في الشارع، ووصفت إحدى المجلات شعور المصريين بوصول فريقهم إلى كأس العالم، بعد غياب 56 عاما بأنه مثل عبور الجيش المصري لقناة السويس في حرب 1973!

في الشهور الأولى من العام  أيضا أصبح محمود الجوهري مدرب المنتخب الوطني نجما تلفزيونيا، حيث تعاقد معه التلفزيون المصري لتقديم حلقات أسبوعية في برنامج "الكرة في أسبوع" على القناة الثانية ليتحدث عن خططه لتأهيل المنتخب لخوض منافسات كأس العالم، ومراحل الإعداد، وأيضا عن المنافسين بفرق المجموعة السادسة التي سيخوض معها المنتخب المصري مواجهات الدور الأول وهى أيرلندا وانكلترا وهولندا.

نجوم آخرون زاحموا الجوهري على الصفحات الأولى، ففي مهرجان اعتزال إكرامي حارس الأهلي يتسبب حسام حسن النجم الصاعد وقتها في أزمة كبيرة، حيث تبادل السباب مع الجماهير ثم أعلن اعتزاله كرة القدم، ورغم تراجعه عن القرار بعدها، إلا أنها لم تكن المرة الأخيرة، فحين قرر الجوهري خصم 300 دولار من مكافأته بسبب تهوره الذي أدى لطرده في مباراة ودية مع ألمانيا الشرقية، هدد بالاعتزال مجددا، وهو ما وصفته الصحافة وقتها بالابتزاز الرياضي! رغم أن الجوهري نفسه فعلها أيضا، فبعد العرض الهزيل الذي قدمه المنتخب أمام رومانيا والهزيمة في المباراة الودية، لم يتحمل الجوهري انتقادات الجماهير فأعلن الاستقالة، ثم قرر تأجيلها لما بعد كأس العالم، وتعرض وقتها للكثير من الانتقادات بسبب القرارات المتسرعة في الأوقات الحاسمة.

تكررت الحملة ضد الجوهري مجددا حين اختار إقامة معسكر لإعداد المنتخب في انكلترا، حيث أنكر مهاجموه عليه أن يستعد لكأس العالم في انكلترا "قائد" المجموعة خوفا من أن تكشف أوراق المنتخب المصري!

في الوقت نفسه أيضا جرت اجتماعات مكثفة لبحث طلبه بإلغاء الدوري بعد اعتراضات من الأهلي والزمالك على استكمال المسابقة من دون المحترفين وأيضا لتتاح الفرصة بالكامل لكل نجوم المنتخب في المشاركة في الإعداد، ووصف القراء قرار إلغاء المسابقة بـ"النكسة الكروية".
ولم يتوقف الأمر عند إلغاء مسابقة الدوري، حيث اعتذرت مصر في فبراير عن المشاركة في كأس الأمم الإفريقية أيضا التي أقيمت في الجزائر، وبعد مداولات كثيرة شارك المنتخب بالصف الثاني ولم يتخط دور المجموعات.

المنتخب في مواجهة المرتب
تصاعد الاهتمام بأخبار الرياضة مع اقتراب موعد المونديال، اهتمام متزايد من المرسل والمستقبل على حد سواء، وصل إلى حد احتلال خبر إعلان التشكيل الرسمي للمنتخب الذي سيخوض المواجهات مساحة أكبر بكثير من خبر زيادة المرتبات وقوانين العلاوة الاجتماعية الجديدة، وهو تحول لافت إذا ما نظرنا إلى الصورة التي رسمها مبارك لنفسه بعناية في بداية عهده كمدافع عن مصالح "محدودي الدخل". هذه التسمية كانت تفسّر بواسطة المعارضة باعتبارها الطريقة الأثيرة للنظام الحاكم في إخفاء المسميات الحقيقية للأشياء كما يقول الكاتب سامر سليمان في كتابه "النظام القوي والدولة الضعيفة" الذي يمكن من خلاله أيضا فهم كيف أصبح خبر الرياضة أهم من خبر زيادة المرتبات. يقول سليمان إن تلك الصورة التي رسمها مبارك لنفسه كمدافع عن محدودي الدخل تتضح أكثر ما تتضح في عيد العمال من كل عام، والتي كان يظهر فيها كأب للعائلة المصرية محدودة الدخل. في الأول من مايو من كل عام يلقي مبارك (تقليد موروث من عبد الناصر واستمر في عهد السادات) خطابا سياسيا عاما. ويبدو أن الرئاسة قبل الخطاب كانت تقوم تُسرب معلومات للصحف الرسمية عن "أخبار سارة" سيعلن عنها مبارك في خطاب الأول من مايو. وهذه الأخبار السارة لم تكن سراً على أحد. فالكل كان يعرف أن المقصود بها هو منحة مالية تماثل الأجر الأساسي لعشرة أيام. ولكن إخراج المسرحية كان يتطلب أن يقوم الرئيس بنفسه بإعلان المنحة بعد أن ينتهي من الخطاب السياسي العام.


في هذه الحالة يبدو خبر المنتخب أهم بالطبع، على الأقل ليس خبرا قديما في مسرحية عبثية مملة. حيث أعلن الجوهري في صباح يوم زيادة العلاوة نفسه القائمة النهائية لمنتخب مصر في نهائيات كأس العالم التي تبدأ 8 يونيو، وضمت القائمة 22 لاعبا هم: أحمد شوبير، وإبراهيم حسن، وربيع ياسين، وهاني رمزي، وهشام يكن، وأشرف قاسم، وإسماعيل يوسف، ومجدي عبد الغنى، وحسام حسن، وجمال عبد الحميد، وطارق سليمان، وطاهر أبوزيد، وأحمد رمزي، وعلاء ميهوب، وصابر عيد، ومجدي طلبة، وأيمن شوقي، وأسامة عرابي، وعادل عبد الرحمن، وأحمد الكاس، وأيمن طاهر، وثابت البطل. واستبعد الجوهري بدر رجب وفوزي جمال وياسر فاروق ونبيل محمود وقال في المؤتمر الصحافي إن اللاعبين الذين لم يقع عليهم الاختيار أدوا الواجب تماما وأنهم أمل المنتخب وقوامه الأساسي في المراحل المقبلة، قال إنه استبعد الناحية العاطفية وأكد على صغر سنهم، وأن الترشيح خضع لعوامل كثيرة أهمها العوامل التكتيكية وخبرة المباريات.

وقائع تمثيل "مشرف"
حرصت الصحف دائما على الإشارة إلى المتابعة الدائمة للرئيس لمباريات المنتخب التحضيرية، وقبل يوم واحد من سفر بعثة المنتخب التقى مبارك بالمدرب واللاعبين، وطالبهم بـ"تشريف" الكرة المصرية، وهي الجملة التي ستلتصق بكل تمثيل رياضي خارجي لسنوات قادمة.

وفي السابع من يونيو 1990 وبالتحديد في الساعة الثانية عشرة والنصف بتوقيت إيطاليا الواحدة والنصف بتوقيت القاهرة وصلت بعثة المنتخب المصري إلى باليرمو، وفي المؤتمر الصحافي الذي أعقب الوصول مباشرة سأل مندوب التلفزيون الإيطالي الجوهري مدرب المنتخب: حققت نتائج طيبة مع النمسا واسكتلندا فماذا سيفعل المنتخب المصري في كأس العالم؟ ورد الجوهري بواقعية شديدة: إننا هواة لم نصل بعد للاحتراف الكامل، واضطررنا للدخول في برنامج مكثف ليتعود اللاعبون على اللعب مع الفرق المحترفة، والنتائج في المباريات الودية ليست مقياسا، هدفنا مازال احترام الجميع واعتبره أهم من النتائج. قال الجوهري إن المنتخب المصري يلعب بـ"أداء عربي" وهو غير معلوم لمعظم الناس في إيطاليا، ودون أن يشرح ما يقصده بذلك "الأداء العربي" قال إنه يفضل أن يحتفظ به لنفسه!

التصريحات الغريبة والتصرفات الأغرب امتدت أيضا لتصل إلى حد تكليف عبد الأحد جمال الدين رئيس البعثة المصرية لأحد الصحافيين بأسئلة محددة للمدير الفني الهولندي، حتى يتمكن المنتخب من كشف خطط لعبه! لكن خاب مسعى "المهمة الوطنية" تلك لأن المنتخب الهولندي قرر ببساطة إلغاء المؤتمر الصحافي من الأساس.


في النصف الثاني من العام ومع سفر البعثة واقتراب موعد المشاركة الأولى، تحولت أنظار المصريين كلها إلى ايطاليا، واحتلت أخبار المنتخب المصري صفحات أغلب الصحف المصرية، حتى إن إحدى الصحف المتخصصة كانت تباع بأكثر من السعر الرسمي في ما يشبه السوق السوداء! وأعلن التلفزيون المصري أنه سيذيع 13 مباراة وتوقع مليون جنيه حصيلة مبدئية للإعلانات، وأعلنت شركات سياحية عن رحلة لمشاهدة "المباراة التاريخية" بين مصر وهولندا تحت عنوان "رحلة في حب مصر" تتضمن السفر وحضور المباراة وجولة في المدينة بـ700 جنيه أو 100 دولار!

معجزات جديدة من السماء
يوم اللقاء حضر المذيع ميمي الشربيني عشرات النوادر والطرائف ليحكيها في حال عدم وصول صوت المعلق محمود بكر من الملعب، لكن وصل الصوت بالفعل ودخلت التاريخ جملته الشهيرة وقت تحقيق المنتخب المصري لهدف التعادل "عدالة السماء نزلت على إستاد باليرمو"، وحضر التلفزيون كاميرات لتجوب الشوارع احتفالا بالتعادل "المشرف" وزعت المقاهي الشربات وسهر المصريين حتى الصباح، وفي اليوم التالي خرجت الصحف كسرادق أفراح كبير، وامتلأت بعناوين من نوعية "المنتخب الهولندي يفلت من الهزيمة"!

حضر مندوبو بعض الصحف اللقاء في منزل اللاعب مجدي عبد الغني، ورفضت زوجته نعمة أحمد الرد على أي سؤال خلال المباراة وقالت للصحافيين "أنا متوترة جدا"، لم تنظر نعمة لضربة الجزاء التي سددها زوجها إلا بعد أن تأكدت من دخولها، ضربة الجزاء التي سيذل بها زوجها المصريين لعقود قادمة. 

بعد التعادل في الظهور الأول، توالت ردود الفعل وزادت الثقة، ووعد الجوهري الجماهير بالتأهل للدول 16 لكنه لم يف بوعده لأن المنتخب تعادل من دون أهداف في المباراة التالية وخرج أمام إنكلترا متأخرا بهدف في اللقاء الثالث والأخير، وكالعادة خرجت عناوين الصحف لتؤكد أننا "خرجنا بشرف"، رغم إن فيفا قرر تغيير قوانين كرة القدم بعد أن قدمنا المباريات الأكثر مللا في كأس العالم بسبب إصرار اللاعبين المصريين على إعادة الكرة لحارس المرمى طوال المباراة، وقرر الاتحاد الدولي للعبة إصدار قانون جديد يمنع حارس المرمى من الإمساك بالكرة حال عودتها من زميله.

مات الحلم وتبخر رغم المحاولات الصحافية لإحيائه واستغلاله للنفس الأخير، طارت أحلام التمثيل المشرف، ولم تعد تصلح أخبار الرياضة للتغطية على الأزمة الاقتصادية الطاحنة، لكن المعجزة أتت من مكان آخر، وقتها نشرت وكالة "رويترز" تحليلا عن الأزمة الاقتصادية قالت فيه أنه مع كل مرة يتوصل فيها المحللون إلى أن الاقتصاد المصري لا مخرج له من الأزمة تحدث المعجزة، ولم يكد يمضى أسبوعان حتى احتل صدام الكويت وبدأت الموارد الخارجية في التدفق من جديد على الخزانة العامة، عادت الأمور كما كانت، تراجعت الأخبار كلها لصالح الحدث الجديد الذي غير وجه المنطقة.


بعد 28 عاما يصعد المنتخب ليلعب في المونديال مجددا.. في الظروف القديمة نفسها تقريبا رغم كل ما جرى! 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها