الثلاثاء 2018/05/29

آخر تحديث: 13:16 (بيروت)

إرفع أنفك، لا شيء واقعياً

الثلاثاء 2018/05/29
إرفع أنفك، لا شيء واقعياً
"إنتباه، كله مُستَلَب، الإقتراب منه، يقلبه إلى مستلِب"
increase حجم الخط decrease
لا يمكن تحديد هوية ذاك الذي كتب هذه العبارة بالفرنسية على بعض الجدران والأرصفة في مدينة بيروت، التي حاولت صروحها الفرنكوفونية خلال الشهر الجاري تذكر شعارات أيار 68: "إرفع أنفك، لا شيء واقعياً". ولكن، من المتاح إفتراض المسار الذي أوصل به إلى الإعتقاد بمعناها قبل إبدائها. إذ إنه مسار يقوم بالتفاوت بين الذي يجري قوله والذي يجري فعله، بالتمزق بين المعلن والممارس، بالتباين بين الكلام والعمل عليه، وعند الإرتطام بقوامه هذا مرة تلو مرة يؤدي إلى التيقظ لكون كل الأشياء فيه، بأسسها واجتماعها، ليست واقعية.


وهذا لا يعني أنها ليست حقيقية، أي أنها مزورة، فالحقيقة والزيف لا يؤلفان سوى أثر لهذه اللاواقعية، التي تفيد بأمر محدد، وهو الإستلاب، فـ"لا شيء واقعي" يساوي "كل شيء مستلَّب". يقف الإستلاب ضد الواقع، وفي نتيجته، وعند إثارة إشكالية الحقيقة والزيف، يصير من السانح التصرف القليل بالنظرية "الغي ديبورية": الحقيقة تراكم للزيف، والزيف ينتج الحقيقة. بالتالي، في أرض الإستلاب، لا يهم إن كان الشيء حقيقي أو مزيف، ما يهم هو إن كان واقعياً أم لا.


مسجل تلك العبارة صارح نفسه، وقال "لا"، لا واقع، ولا وقوع، فمن يريد أن يثبت العكس، من يريد أن يقول "نعم"، هناك واقع، وهناك وقوع، لا بدّ أن يدلّ بإصبعه عليهما. من المعلوم أن أول المتبرعين لإثبات العكس في مدينة بيروت هم هؤلاء الذين يرددون "إنها الحرب، لا واقع سوى الحرب، ولا وقوع سوى لها"، إلا أن الجميع يشعر أن هذه الحرب صارت مظهر من مظاهر الاستلاب، تحصل بحسبه، ولأجله، خصوصاً أن رجاء حدوثها المنصرم غدا غاليري جذاب. لا يمكن للحرب، وقد أضحت صالة مزينة بالأعمال الفنية، أن تندلع فعلياً، فحينها سيتعطل تداولها، سيتحطم إقتصادها، وبعبارة واحدة، سيتوقف عرضها، أو بالأحرى سيتوقف كل عرض.

ملائمة هي العبارة لمدينة بيروت، "إنتباه، كله مُستَلَب، الإقتراب منه، يقلبه إلى مستلِب". فهنا، ثمة مضخة تمثيلية عملاقة تغرق المأخوذين بها بسيلها الجارف، حيث يختنقون تحتها، ولا أحد بينهم تعلم السباحة، وذلك، في حين أن الغوص جنون، والعوم سحق للعظام. فترة الإختناق، الحضور في وشك الموت، هي الفترة المتبقية من الواقع، ومع ذلك، لا يمكن الجزم في واقعيتها، لا سيما أن شخوص الشكاية قد التهموها، مضغوها، وها هي قد أصبحت موضوع لبرنامج تلفزيوني من هنا، ولفيديو كليب من هناك، ولبوست "فايسبوكي" ولمقالة ولفيلم ولرواية بينهما، وهذا، من أجل أن تقضي على آخر مهملات الواقع: الإحساس بالضيق.

"إرفع أنفك"، أي اسحب أنفك من السيل الجارف للمضخة التمثيلية، اسحبه من هذا السيل المعطر بحديث التغيير وبحديث التجديد وبحديث الإختراق وبحديث الاعتراض وبحديث الإكتئاب وبحديث التلاعب، وبكل أحاديث الغش، اسحبه وشم رائحة الواقع، رائحة العدم. ما يجب تعاطي هذه الرائحة مطولاً، يجب تنشقها بشدة من أجل التخلص من كل أشكالها ومنها دفعة واحدة.

يصيب هذا التعاطي، بدايةً، بالشلل، ثم بوعي التفاهة الذاتية، ثم بالتصالح مع كون "لا شيء واقعي" في الوراء، ولاحقاً، يتلاشى كل العدم. البعض، وهم كثر، ينتابهم الندم، فيعودون.

قد تكون عبارة "لا شيء واقعياً" في مدينة كبيروت تسجيلاً للعدمية المتفرقة فيها، وقد تكون رحلة في العدمية إياها. إلا أنها، وعلى الرغم من ذلك، بمثابة بيان مقتضب لها، قد يلحقه الدخول في أزمة المعنى، وقد يلحقه ترويج لشيء آخر يدعي أنه لا يمت للعدم بصلة (من الممكن التخيل أن تلك العبارة مكتوبة كجزء من حملة لتسويق ماركة عطر)، ولكن، قد يلحقها تعاطي للعدم ضد العدم، أولنقل، وبالإنطلاق من طريقة كتابة العبارة، قد يلحقها قفز فوق العدم، ورمي له خلف الظهر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها