السبت 2018/03/17

آخر تحديث: 12:31 (بيروت)

الغوطة التي أدهشت العرب

السبت 2018/03/17
increase حجم الخط decrease
في "تاريخ مدينة دمشق"، نقل ابن عساكر رواية تقول ان عمر بن الخطاب دخل دمشق سنة 16، ولما أشرف على غوطتها بعدما رحل عنها أهلها إثر الفتح الإسلامي، "نظر إلى المدينة والقصور والبساتين"، وتلا أربع آيات من القرآن الكريم: "كم تركوا من جنات وعيون. وزروع ومقام كريم. ونعمة كانوا فيها فاكهين. كذلك وأورثناها قوما آخرين" (الدخان 25-28).

تكرّرت هذه الصورة في كتب التراث على مدى قرون من الزمن، وأضحت الغوطة "جنات وعيون وزروع" تماثل جنّة السماء في الحسن والبهاء. في كتابه "الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة"، كتب أبو عبد الله بن شداد في وصف دمشق: "فإنها أحسنُ بلادِ الشامِ مكانًا، وأعدلها هواء، وأطيبها نشرا، وأكثرها مياها، وأغزرها فواكه، وأوفرها مالا، وأكثرها جندا، ولها ناحية تُعرف بالغوطة طولها مرحلتان في عرض مرحلة، وتشتمل هذه الغوطة على خمسة آلاف بستان وثلاثمائةٍ وخمسةٍ وأربعين بستانًا، وعلى خمسمئة وخمسين كرمًا، وهي من شرقي دمشق وشماليها، بها ضياع كالمدن، مثل المزة وداريا وحرستا ودمر وبلاس وبيت لاها وعقربا، وبها كلها جوامع".

في خريطة سوريا المعاصرة، تحيط الغوطة بدمشق من الشرق والغرب والجنوب، وتنقسم إلى منطقتين متصلتين، هما الغوطة الغربية والغوطة الشرقية. تنطلق الغوطة الغربية من مضيق الربوة، وتمتد غرباً وجنوباً إلى محيط المزة وكفرسوسة وداريا ومعضمية الشام، ويمر بها نهر الأعوج. في المقابل، تنطلق الغوطة الشرقية من مدينة دوما التي تُعتبر عاصمتها ومركزها، وتمتد نحو الشرق والجنوب إلى ان تلتقي بالغوطة الغربية، وتشمل بلدات اتسعت وأصبحت أشبه بالمدن، مثل حرستا، عربين، زملكا، حزة، وكفربطنا. في الأسابيع الأخيرة، تحوّلت هذه المناطق الآهلة بالسكان إلى ساحة حرب طاحنة، وباتت أشبه "بالجحيم على الأرض"، كما تقول وسائل الإعلام العالمية.

تُعتبر دوما أكبر مدن الغوطة، وهي في كتب التراث دومة. في نهاية العصر العباسي، ذكرها اليعقوبي في "معجم البلدان"، وقال انها "من قرى غوطة دمشق، يُنسب إليها جماعة من رواة الحديث". وفي مطلع القرن السادس عشر، ذكرها الحافظ محمد بن طولون الدمشقي في رسالته "ضرب الحوطة على جميع الغوطة. وقال إنها "قرية كبيرة جامعة شرقي حرستا، وهي من أمهات القرى، من أقطاع أمير كبير، وشربها من نهر ثورا، وقد خرج منها جماعة من المحدثين والعلماء، منهم الدومي المشهور". عمرت هذه القرية الكبيرة، وباتت مدينة زراعية صناعية بها العديد من المصانع والمعامل، وشهدت تضخما سكانياً كبيراً. أكبر أحيائها من حيث عدد السكان، حي الشمس في الجهة الشمالية، ثم حي الشرقية في الجهة الشرقية. وأصغر هذه الأحياء حي القصارنة، في الجهة الشمالية الغربية.

تتبع حرستا منطقة دوما، وتقع على الجهة الشرقية للطريق الذي يربط بين دمشق وحمص. كانت في زمن ياقوت الحموي "منطقة كبيرة عامرة وسط بساتين دمشق"، وباتت في زمن محمد بن طولون الدمشقي "قرية كبيرة جامعة"، و"قرية شر وفسق". وهي اليوم مدينة انتشر فيها العمران الحديث باتجاه دوما، وفي طرفها الغربي مصانع إنتاجية. تشكل بلدة زملكا بوابة لحرستا، وهي متاخمة لمحافظة مدينة دمشق من الجهة الشرقية، وتتبع كذلك منطقة دوما. اكتفى ياقوت الحموي بالإشارة إليها، وقال محمد بن طولون من بعده انها "بلدة كبيرة جامعة، بها جامع وحمام وخلق كثير، وهي من أمهات الغوطة، وشربها من نهر ثورا، وبها موضع يقال انه مزار، وقع بها حديث كثير، وخرج منها جماعة من المحدثين والعلماء". عمرت هذه البلدة بشكل كبير بحكم قربها من مدينة دمشق، ودُمّرت مؤخراً بشكل شبه كامل بسبب المعارك المستمرّة فيها. بين حرستا وزملكا، تقع بلدة عربين، وهي بتعريف محمد بن طولون "قرية جامعة، وشربها من نهر ثورا، وإليها يُنسب العنب البلدي واللوز، وقع بها حديث كثير، وخرج منها جماعة من أهل الحديث، ولهم فيه سماع". كما في الأمس، تشتهر هذه البلدة بلوزها المعروف بالعقابي، وسوقها للوزيات هو الأكبر في سوريا. تحولت عبرين إلى ساحة حرب. ونقل الإعلام المرئي خبر خروج مجموعة من سكانها منها بعد فتح ممر إنساني للخروج من منطقة المواجهات العسكرية الدائرة في المنطقة.

تجاور هذه البلدات، ناحية كفر بطنا، التي تضم بلدة تحمل هذا الإسم، وقرى سقبا، حورية، جسرين، بيت سوى، عين ترما، افتريس، وحسة. ذكر صاحب "ضرب الحوطة على جميع الغوطة" كفر بطنا، وأضاف: "هي قرية جامعة بها جامع وحمام ودكاكين، ويُقال انه كان بها علماء وسادات ورؤساء وتجار، وهي أملاك متفرقة، وبها عدة مساجد، وشربها من نهر داعية، ووقع بها حديث كثير، وخرج منها جماعة من الإئمة المحدثين بل الحفاظ، منهم الحافظ شمس الدين الذهبي وولده المحدث أبو هريرة وغيرهما". توسّعت بلدة كفر بطنا بشكل تدريجي، وازدادت الخدمات فيها. كذلك، توسعت سقبا، وعُرفت بنتاجها الزراعي، كما عُرفت بصناعة الموبيليا الخشبية منذ مطلع سبعينات القرن الماضي، وبات فيها المئات من صالات الموبيليا التي تبيع وتفصل المفروشات لكافة الفئات الاجتماعية، وأدى هذه النجاح إلى إقامة "مهرجان مفروشات سقبا" السنوي في البلدة. امتدت الحرب الدائرة إلى هذه الناحية من الغوطة، وبلغت سوق كفر بطنا حيث خلّفت العديد من الضحايا في الساعات الماضية.

في كتاب "ذكراتي"، ذكر الشيخ علي الطنطاوي غوطة دمشق التي أدهشت العرب، "فأنطقت شعراءهم بروائع البيان وخوالد القصائد وتساءل: "فأين اليوم الغوطة؟ الغوطة الغربية قطعنا أشجارها وقلعنا أورادها وأزهارها، ورمينا فوق رأسها الحجارة والأبرق". وأضاف الكاتب متحسرا: "حتى الغوطة الشرقية، الغوطة الكبرى، ما سلمت منا ولا نجت من أذى أيدينا. في طرف الغوطة منطقة تُدعى درب الجوز، أعرفها أنا، فيها من أشجار الجوز ما لا يحيط بجذع الشجرة منها رجلان إذا مدّا أيديهما. لست أدري من هو العبقري الذي اختارها لمنطقة المصانع ولا متى كان ذلك، فقامت مكان الأشجار الضخمة التي تثمر الجوز مداخنُ تنفث الدخان".

في الواقع، فقدت الغوطة الرقية حسنها في الأزمنة الحديثة بفعل تطوّر الحياة الطبيعي، غير أنها لم تفقد ثراءها الطبيعي، وها هي اليوم تتحوّل إلى أرض محروقة. في الشهر الماضي، قال الأمين العام للأمم المتحدة أمام مجلس حقوق الإنسان في جنيف خلال افتتاح دورته السنوية: "ليس بوسع الغوطة الشرقية الانتظار، وحان الوقت لوقف هذه الجحيم على الأرض". تكرّر هذا النداء من دون جدوى. يستمر هذا الجحيم هذا الجحيم على الأرض، ومعه يستمر مسلسل خراب سوريا المتنقل من منطقة إلى أخرى.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها