يقول توماس مان في إحدى رواياته، أو في إحدى مقاﻻته، إن الرجل الذي يعيش في عزلة يتمتع بقدرة أكبر من الرجل اﻻجتماعي على نشر اﻻبتكارات، والتوافه.
السطور السابقة ينقلها إرنستو ساباتو عن توماس مان، في كتاب اﻷول المعنون الكاتب وأشباحه الصادر في مصر عن المركز القومي للترجمة، هذه العبارات التي ينقلها ساباتو عن مان، هي بالضبط التي تخبرنا عن أي مستقبل ينتظر الرواية.. الرواية العربية وكُتابها.
منذ سنوات اكتشفت أنني عاجز عن الكتابة وسط محيطي، ووسط أسرتي، وبعد مواعيد عملي، كما اكتشفت إني أخاف مجتمعي أيضا، وجاء نظام منح اﻹقامة اﻷدبية اﻷوروبية ليمكنني من اﻻنفراد بعالمي الروائي، ومواجهة نفسي، ومواجهة ما أكتبه، وأعيد النظر فيه، وفي منتجي اﻷدبي، ساعدني اﻻبتعاد عن محيطي المعتاد، أن أقترب من نفسي، ومن رغبتي في كتابة ما أخشاه، وأن أضع على الورق ربع ما يعتمل داخلي من هواجس ومخاوف وأفكار. حررني البعد عن المجتمع من قيوده، وجعلني أحلق وأحاول وضع أفكاري وسط مجتمع حر، ومختلف، دون خوف، فوضعت ما رغبت في وضعه.
لكن ما وضعته على الورق، وهو ربع ما كنت أتمنى كتابته، لم يلق ترحيبا من بعض الناشرين، ولكي لا تكون هذه السطور أشبه بالشكوى، أو الرثاء على الحال، أخلص منها إلى أنه من المؤكد والواضح أن الرواية العربية تذهب إلى المنطقة اﻵمنة لدى الروائي الاجتماعي، الذي يجس نبض مجتمعه، وقيوده، واشتراطاته، ويكتب وفقا لها، فصارت منطقة الروايات الفانتازية، التي تدور أحداثها في بلدان متخيلة، وفي عوالم غير حقيقية هي المنطقة الأمثل للكتابة، وسيكون هذا على حساب الرواية الواقعية، التي ربما يدير لها الناشرون ظهورهم لتلافي الوقوع في المحظور، وهو التورط في نشر أعمال تنتقد السلطة، أو اﻷنظمة الحاكمة.
والواضح أيضا أن هناك موجة من اﻷعمال الروائية التي ترتد بالزمن إلى الوراء، وأن هناك رواجا لهذه النوعية من اﻷعمال، خاصة بعدما نالت رواية محمد حسن علوان "موت صغير" جائزة البوكر العربية، عن موضوع ابن عربي، وهي منطقة آمنة في الرواية العربية، تتحدث عن اﻹسلام الصوفي الزاهد، وقصص العشق، والحب اﻹلهي، فصارت رواية "موت صغير" قاطرة لعدد من الروايات، انساق مؤلفون إليها، فكتبوا أعماﻻ تتناول الثيمة نفسها، في أعقاب فوز علوان بالبوكر العربية.
وفي الوقت الذي تكافئ فيه جوائز الرواية العربية، أعماﻻ غير جريئة، وﻻ تحض على مناقشة أفكار ثورية، أو محاكمة للأنظمة العربية المتسلطة، أو الديكتاتورية، ينساق بالتبعية الناشرون العرب، إلى نشر روايات مسالمة ﻻ تتطرق لهذه الموضوعات، أو بالكاد، تتناول أفكاراً تدور في فلك غرائبي، أو عوالم خيالية.
وبجانب ما سبق، من تقهقر للموضوعات اﻻجتماعية التي ترصد الواقع اﻻجتماعي المصري، أو الموضوعات التي تنتقد حتى السلطة على استحياء، ويكتبها روائيون منعزلون تماما على طريقة ساباتو، بفضل تحكم الناشرين النافذين في ما ينشر من أعمال – مدفوعين هم أيضا بالخوف من السلطة والمصادرة والمداهمة وكل أشكال البطش- صارت النتيجة جنوح الرواية المصرية إلى طابع الموضوعات التي تتناول اﻹسلام الصوفي، أو سيرة بعض اﻹسلاميين الذين تفصلنا عنهم أزمنة، وهي الروايات التي يكتبها روائيون اجتماعيون، يراعون العلاقات، ويحفظون الود، وينجذبون إلى الأضواء، ويخشون غضب السلطة، وسخطها، فتراجعت الرواية الواقعية، وبات من المنتظر انتهاؤها إلى اﻷبد بحلول بضعة عقود، إذا ما استمرت سيطرة الناشرين على ما ينشر من مطبوعات، ورفضهم اﻷعمال التي تمس المجتمع، أو السلطة، أو رجال الدين.
على نحو آخر تزدهر الرواية السورية، وتقطع خطوات متوثبة أشبه بالقفزات إلى اﻷمام في طريقها إلى نقد التسلط البعثي، ممثلا في بشار اﻷسد، واﻹجرام الذي يشنه ضد شعبه، وبينما يزداد اﻻهتمام في أوروبا بالرواية السورية، والقصة السورية، والروائيين السوريين، وتنشط حركة الترجمة في متابعة أسماء مثل خالد خليفة، وفواز حداد، وغيرهما، يكاد يخبو اﻻهتمام بالرواية المصرية، والمنتج اﻷدبي المصري، حتى بالكاد تظهر بعض اﻷسماء على منصات الجوائز، لكنها ﻻ تصل إلى المربع النهائي.
ويبدو أن الرواية تذهب إلى مستقبل مظلم في ظل ضعف التعليم في مصر، وزيادة إقبال المراهقين على قراءة اﻷعمال السهلة، غير المرهقة فكريا، أو ذهنيا، وربما سيكون كُتاب المستقبل هم قراء اليوم الذين ﻻ يهضمون الروايات المكتوبة كل عامين أو ثلاثة، ويلتهمون بنهم الأعمال التي تصدر كل ستة أشهر لكُتّاب البيست سيلر.
لم تزل خلطة البيست سيلر في مصر قادرة على أن تستحوذ على رضاء الشريحة الكبيرة من القراء الذين يمتلكون القدرة الشرائية، وأصحاب أندية الكتب النافذين، والمتحكمين بمن يستضيفون أو يقصون من الكُتّاب، وكان لكاتب هذه السطور تجربة مع أحد أصحاب أندية الكتب الذي طلب استشارتي في من يستضيفه من كُتاب الجيل الحالي، الذي انتمي إليه، فرشحت عملا روائيا جريئاً، وجميلاً، وصل إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، ويناقش قضية حساسة وشائكة في الواقع المصري، إﻻ أن صاحب نادي الكتاب قرر استبعاده بعدما اطلع على موضوع الرواية، مفضلا عدم الخوض في تفاصيلها وموضوعها الشائك، والذي من المرجح أن يثير حفيظة أعضاء النادي، وخجلهم، واختار روائياً من روائيي البيست سيلر، المشهورين، والمعروفين بوجاهته اﻻجتماعية، ومنصبه وعلاقاته المترامية، وموضوعات رواياته التاريخية، أو الغريبة عن الواقع المصري السفلي، إذ يخاطب في أعماله أو في بعضها، طبقات المجتمع "الهاي كلاس".
لقد إتضح تماما أن تفضيلات أصحاب أندية الكتب، تميل دائما ﻻختيار قراءة اﻷعمال الروائية اﻵمنة، التي تتناول موضوعات ﻻ تثير حرجاً أو "كسوفا" في القعدة التي تحضرها "هوانم وبهوات"، وعليه ربما صارت تفضيلات بعض لجان القراءة في دور النشر المصرية، تذهب أيضا إلى الموضوعات التي، يمكن أن تُقرأ "بالشوكة والسكينة"، وليست تلك المغموسة في عرق وملح وجهد الروائي وتنقيبه وتقليبه في طبقات مجتمعه، ﻻستخراج قصة جديدة وغير تقليدية، تخالف الخلطة المعروفة الآمنة التي يفضلها الناشرون.
وتبدو فكرة "مكتبة المستقبل" النروجية، التي ابتكرتها كاتي باترسون، (تقوم على حفظ مائة مخطوط لمائة كاتب، ودفنها في غابة نروجية، ثم اﻹفراج عنها بعد مائة سنة، أي في العام 2114)، هي الناجحة والفعالة، لمقاومة خريف متوقع لفن الرواية، إذ يعتمد المشروع على نشر مائة مخطوط روائي لمائة كاتب، لم يتطوع منهم حتى اﻵن، منذ ظهور فكرة المشروع عام 2014، سوى خمسة كُتاب، منهم مارغريت أتوود، والكورية الجنوبية هان كانغ صاحبة رواية "النباتية" الفائزة بجائزة المان بوكر عام 2016.
ربما إذا ظهر مشروع روائي عربي، يحفظ للأجيال القادمة مائة مخطوط روائي عربي، من الكتاب العرب والمصريين المعاصرين، سيحفظ هذا فن الرواية المصرية والعربية للمستقبل، قبل أن تشهد عصر اﻻنحطاط، والتردي إلى أعمال تُقرأ في "ستاربكس" بجوار الكابتشينو.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها