الأربعاء 2018/11/07

آخر تحديث: 12:28 (بيروت)

شهد الراوي.. بين حملات التهديد والجهل بصدّام

الأربعاء 2018/11/07
شهد الراوي.. بين حملات التهديد والجهل بصدّام
شهد الراوي أقفلت كل حساباتها بعد تهديدات
increase حجم الخط decrease
لم تكفّ رواية "ساعة بغداد" لشهد الراوي، عن احداث الضجيج في وسائل الاعلام وفي السوشيال ميديا، منذ صدورها العام 2016 عن دار الحكمة/ لندن. وربما ما بدأ هذه الضجة الإعلامية هو القراءة، أو العرض، الذي قدمه الشاعر والكاتب خالد مطلك، ويكاد يكون أول وآخر عرض جاد، يأتي من كاتب له أرضيته الواضحة في عالم الأدب والفن عن الرواية. وما تلا هذا العرض لا يصل معظمه إلى تكرار واجترار المديح أو الهجوم على الرواية كعمل أدبي. قيل الكثير وكتب الكثير عن الرواية، ليست كتابات أكاديمية أو رصينة يمكن الرجوع إليها كمصادر، ولكن كردود أفعال غالبيتها جاءت كمنشورات شخصية في السوشيال ميديا.


ما حدث مع "ساعة بغداد" ومؤلفتها شهد الراوي يستحق التوقف قليلاً، وتأمل الوسط من بُعد، ومراقبة حركة كل المتفاعلين مع "الظاهرة" سواء كانوا من مهاجميها وروايتها، أو من المؤيدين.

لنتفق في البدء، أننا لا نملك نقداً أدبياً حقيقياً، أي النقد النابع من شغل وبحث واجتهاد في هذا المضمار. ما أعاد الضجيج حول الرواية مؤخراً هو فوز روايتها بجائزة مهرجان أدنبرة للكتاب الأول، وهي جائزة مخصصة للعمل الأول لمؤلفه، وصدوره باللغة الانكليزية، بغض النظر عن كونه كتب باللغة الإنكليزية أم ترجم إليها، ويتم اختيار الفائز عبر تصويت الجمهور. لم تُذكر هذه المعلومات عن الجائزة عند نشر الخبر، ما حرك حفيظة الكثيرين الذين لم يستوعبوا بعد وصول روايتها إلى القائمة القصيرة لجائزة "بوكر العربية" مؤخراً.

فعادت الحملة أشرس مما كانت إثر صدور روايتها ودخولها قائمة "بوكر". يبدو أن أحد المخلصين في عملهم الإقصائي، لم يهدأ له بال إلا وقد نبش في ماضي الكاتبة عبر رصد منشوراتها القديمة. وبالفعل، فقد خرج هذا المواطن الساهر على راحة بلده، بمنشورات قديمة للراوي من حسابيها في "فايسبوك" و"تويتر"، وهي تترحم وتعلن فقدها لصدّام حسين. لم يكن المنشور غريباً بالنسبة إليّ، فقد اعتدنا هذا الترحم من أسماء أدبية معروفة كذلك ما زالت تعيش بيننا. الغرابة بالنسبة اليّ، كانت عدم استيعاب شريحة واسعة من العراقيين لوجود جماعة وطبقة معينة، كانت، ذات يوم، متسيدة على الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وأن شعورهم بالحنين والفقد لتلك الحقبة هو أمر بديهي وطبيعي، لمن لم يتقبل تقلبات البلد والتغيرات السياسية ويعيش حالة الإنكار. والغرابة أيضاً، أن الراوي، رغم أنها لم تكن معروفة ككاتبة وقت كتابة تلك "المنشورات"، أنها كانت جاهلة جهلاً تاماً بمن تترحم عليه، وأي أثر يترك هذا في نفوس ملايين البشر من الشعب العراقي ممن عانوا في حقبة حكمه. لكن أمثال الراوي وعائلتها وطبقتها، واقع موجود في المجتمع العراقي منذ القِدم، مثلما هو موجود في بلدان العالم. ما زالت بيننا عائلات تعيش حلم عودة الملَكية في العراق، لأنها لم تشعر بالانتماء لكل ما جاء بعد اسقاط النظام الملكي.

هذه العائلات، مرفهة عادة، وغالبيتها كانت تقطن شوارع لا تدخلها عربات النفط والغاز التي يجرها حصان أو حمار، ولم يدق بابهم متسول في يوم من الأيام، ولم يدخلوا الأسواق الشعبية أو أحياء بغداد الفقيرة ليدركوا فداحة ما ارتكبت يد الحاكم آنذاك. طبقة لم يكن لها صلة بالواقع العام الذي عاشه العراقيون عموماً منذ الستينات وحتى يومنا هذا. ليس ذنب شهد الراوي، أنها ولدت لعائلة تنتمي لهذه الطبقة، لكن ذنبها أنها لم تخرج من فقاعته الوهمية بعد، رغم كل هذه التقلبات التي هزت أركان البشرية في العالم. الجهل ليس عذراً ولا تبريراً لمنشور الكاتبة في تمجيد صدّام حسين، إن صحّت المنشورات طبعاً. ولا وظيفة علم الاجتماع وعلم الانسان، الذي تدرسه الكاتبة، تبرير سلوكها، بل وظيفته المراقبة والتحليل والتوضيح وتشريح هذا السلوك لفهم أوسع للنفس البشرية. لكن الأمور والوظائف تختلط على البعض، فيظنون بأن استنكار هذه الحملات -التي لا طائل منها- هو دفاع عن الكاتبة وتبرير لها.

وفي المقابل، فالكاتبة، بعدما أصبحت شخصية عامة لها جمهورها، وإذا أرادت كسب احترامهم، فهي مُطالَبة من دافع انساني ومبدئي أن توضح دوافعها لكتابة تلك المنشورات في ذلك الوقت. وهي حرة في اختيار التوضيح من عدمه، والمتلقي أيضاً حر في عدم الأخذ به واستمرار حملاتهِ ضدها. لكن المهم هنا، وعلى المستوى الأدبي: هل حقاً لم يكن هؤلاء يعلمون طبيعة حياتها ونسق عيش عائلتها قبل سقوط بغداد، ليظهروا كل هذه الدهشة والاستنكار من منشورها؟ فكيف عرفوا إذن بأن روايتها رديئة لا تستحق كل هذا الاهتمام، وهي لم تكتب سوى تجربتها الشخصية "الطبقية" التي تنتمي اليها؟ هل حقاً لا تدرك الغالبية أن هناك الكثير من المدن والقرى العراقية كانت وما زالت موالية لنظام صدّام؟ وهل حقاً لا يعرفون أن الوسط الأدبي كان وما زال يتعامَل ويعامِل على أساس المناطقية والقبلية، وأن دعم اسم دون غيره إنما هو نهج الوسط منذ زمن بعيد؟ إذا كانت الغالبية لا تدرك هذا الواقع، فنحن أمام مشكلة كبيرة في فهم السلوك البشري، لا تبريره.

تكمن أزمة العراقيين عموماً في تسمية المسميات باسمائها، واللف والدوران حتى يدوُخوا ويدَوخ من حولهم معهم. لهذا، لا نتوصل إلى حل أزمة أو الوقوف على أسبابها، على الأقل لنتمكن من فهمها.


أسئلة كثيرة تطرحها مثل هذه الحملات والظواهر الأدبية، ومنها: إلى أين يمضي الأدب العراقي حقاً؟ هل يُسلَّع لصالح صراعات سياسية، كما اعتاد أن يفعل نظام صدّام؟ أم أننا مقبلون على مستوى جديد من الانقسام ليكون هناك أدب "المرفهين" وأدب "المكاريد" بعدما كان لدينا أدب "الداخل" وأدب "الخارج"؟ وهل ثمة ما يسمى بـ"الأدب العراقي" أم أنه "الأدب" وكفى؟ هل الغضب الآن سببه أن رواية "ساعة بغداد" لا تستحق كل هذا الاهتمام والاحتفاء، أم السبب أن مؤلفتها ذات توجه "بعثي-صدامي"، بحسب ما يقول الغاضبون؟ هل كان لكل هذا الاحتفاء بالرواية، ثم الهجوم عليها، ليصبحا واقعاً إن كانت صاحبتها ذات طلة عادية، أو رجل حتى؟ لا أعرف ما الفائدة من ملاحقة الرواية وصاحبتها بعدما حسم هؤلاء أمرهم بأن الرواية لا تستحق كل هذا الاحتفاء.. فهل حقاً كانوا بحاجة إلى منشور يدينها ليثبتوا رؤيتهم للعمل؟

كل هذه الأسئلة تمر أمامي بسذاجتها ونمطيتها لتذكرني، كم أننا شعب يحب التفاصيل الجانبية التي تحجب جوهر الأزمات وتستنزف طاقاتنا. في خضم هذه الصراعات والحملات، يتغافل الجميع عن أن شهد الراوي، ككاتبة وشخصية اجتماعية، لا تمثل سوى نفسها، وأن روايتها هي نتاجها الشخصي، وأن أي جائزة مادية تحصل عليها تدخل حسابها البنكي، وليس البنك المركزي العراقي، وأن كل وسام تفوز به سيعلق على صدرها وليس على صدر العراق، وأن تقديم كاتب بجنسيته لا يعني أنه يمثل البلد، ومشاركة أدباء بيئة وتجربة واحدة لا يعني أنهم يمثلون أدب بعضهم البعض أو حتى يتشاركون في جانب منه.

بكل بساطة، وهذا ما علينا فهمه والتعامل على أساسه في عالم الأدب، رواية "ساعة بغداد" لا تمثل الأدب العراقي، بقدر ما تمثل "تجربة" الكاتبة الشخصية، مثلما لا تمثل "فرانكشتاين" أحمد سعداوي، أو "مجنون ساحة" حسن بلاسم، الأدبَ العراقي، بقدر ما تمثل تجربتيهما الأدبيتين.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها