السبت 2018/11/03

آخر تحديث: 11:55 (بيروت)

الموصل: المقاهي أيضاً تاريخ وآثار.. واشتباكات!

السبت 2018/11/03
increase حجم الخط decrease
كانت الموصل مثل المدن العتيقة المثالية، من حيث توافر أركان المدينة "الحضرية" المحافظة على أصالتها وتطورها عبر التاريخ. تكاد الموصل أن تكون من مدنٍ نادرة بُني فيها المستقبل على أطلال الماضي، الذي ما زال قائماً وشاهداً على تاريخ البوابات، والأسوار العصية على الطوفان. 

مثل كثير من المدن الشرقية العربية، كانت ثقافة المقاهي الشعبية منتشرة في أرجاء المدينة. لكنها كالعادة، كانت حكراً على الحضور الذكوري. فيما كانت النوادي، "الكازينوهات" المنتشرة، غالباً، على ضفاف نهر دجلة، تتسم بطابع عائلي.
بسبب الطبيعة المحافظة للمجتمع، حتى في السبعينات، فلم تكن ثقافة المقاهي والكافتيريات موزعة بشكل عادل بين مناطق الموصل، لتكون الأمكنة المثالية التي تلتقي فيها فئة الشباب والشابات معاً. هذه المقاهي كانت شبه مقتصرة على منطقة المجموعة الثقافية، الشارع المقابل لجامعة الموصل الممتدة على طول آلاف الأمتار.

ليس هناك مسح تاريخي جاد، يرصد تطور هذا الشارع، كي نتعرف عليه قبل أن تطحنه الحروب، مرة بسنوات الحصار العجاف، ومرة بعمليات الإرهاب التي استهدفت الشارع بشكل منتظم، وأخيراً آثار "الحرب على الإرهاب" وطرد "داعش" من المدينة.

كنتُ، في أواسط الثمانينات، أسمع عن هذا الشارع من دون أن أراه، غالباً من أختي الكبرى التي كانت تدرس الهندسة وقتها. حكايات تشبه الخيال الفرنسي الذي كان يتركه صوت غابي لطيف، المنساب كحلم من راديو مونتي كارلو. حتى أصبح هذا الشارع أحد أهدافي الرئيسية لبلوغ غايتي في دخول الجامعة. ربما يستغرب البعض أن تكون أحلام الكثير من "الفتيات" في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، هو التحرر، على الأقل، على مستوى عبور نهر المدينة إلى الجانب الآخر. هكذا كانت الحياة تبدو من نافذتي المقتصرة على حي راقٍ دون أناس يلونون وحشة الطريق. الأسوار العالية التي تحجب النوافذ من الإطلالة على الشوارع ونور الشمس، كانت سمة العمران في الموصل، ولا تزال.

حتى قبيل حرب الخليج، كان الشارع يتميز بعمرانه البسيط الجذاب، بمحلاته المتخصصة وانتشار متاجر بيع الكتب والقرطاسية واللوازم التجميلية والأشرطة الموسيقية وتأجير الأفلام. سلسلة معروفة من استديوهات التصوير الفوتوغرافي، مجاورة لمحلات شهيرة لبيع المكسرات والحلويات، التي تُعرف بها الموصل دوناً عن باقي المدن العراقية. وبين هذه المحلات الصغيرة المتخصصة، توزعت المقاهي على أنواعها. ربما كان هذا الشارع الأكثر حرية بالنسبة للإناث والذكور في الحصول على الزاوية الخاصة نفسها من الجلوس في مقاه جميلة كانت غالباً مصممة على طراز أوروبي أو أميركي. إذ في هذا الشارع، لم تكن مقاعد المقاهي تفرّق بين رجل وامرأة، طالما أنك قادر على دفع حساب الطلبات في النهاية. تطور بعض هذه المقاهي مع عودة كثير من الجامعيين من أوروبا، كنتيجة حتمية على العقوبات الاقتصادية التي فرضت على العراق بعد حرب الخليج. وكذلك التغييرات الكبيرة التي حصلت في أوروبا نفسها بعد التسعينات، خصوصاً الشرقية منها. لم يعد ممكناً للبعض الاستمرار في الدراسة والإقامة في تلك البلدان. كان استثمار أموال بعض العائدين وتوظيف خبراتهم من العمل ومشاهدة مقاهي أوروبا، وسيلة تساعدهم على المعيشة، لأن رواتب الأكاديميين تدهورت تماماً مع التضخم الاقتصادي وانهيار العملة العراقية. من تلك المقاهي التي فتحت آفاقاً جديدة في تذوق الشارع الموصلي للعمران والخدمة، مقهى "فيروز" الشهير ومقهى "قرطاج". إذ كان بعض المقاهي التي بنيت قبل هذا العهد، يتخذ من الطبيعة ثيمة لتصميمها، كما هو حال "كافتيريا الكهف". ورغم الفرق الكبير بين المقهى والكافتيريا في نظام الخدمة والمكان، إلا أن المتعارف عليه في شارع المجموعة الثقافية هو استخدام كلمة كافتيريا للدلالة على كل المقاهي، لأن اسم المقهى كان وما زال مقترناً بالمقاهي الشعبية التي يجتمع فيها الرجال فقط لشرب الشاي والقهوة. 


بعض هذه المقاهي الحديثة، وقتها، لم يكتفِ بتقديم خدمات استضافة للزبائن فحسب، بل حاول أن يقدم فناً من خلال إقامة حفلات موسيقية تحييها فرق شابة، وكانت غالبيتهم من طلبة كلية الفنون أو الجامعة بشكل عام. استمرت هذه المقاهي في الازدهار إلى حين التدهور الكامل للبلد اقتصادياً واجتماعياً. مع انتشار "الصحوة الإيمانية" التي قادها صدام حسين في التسعينات، في محاوله منه لمحاباة المجاميع الإسلامية "المعارضة"، ومع استقلال كردستان فدرالياً وفرض الحظر الجوي، ما جعل آلاف الطلبة الأكراد ينقلون كليات دراستهم إلى جامعة صلاح الدين والسليمانية. وهو ما ترك فراغاً كبيراً في نسبة الوافدين من الشباب والشابات إلى هذا الشارع.

وساهم سوء الأحوال الاقتصادية، وقلة رعاية الطلبة الوافدين من الجنوب، في اختيار جامعات أقرب إلى مدنهم، رغم أن مستواها لم يكن يقارن بمستوى جامعة الموصل. مع نزوح آلاف الطلبة إلى مناطقهم، تقلصت المقاهي في المجموعة الثقافية، وبدأ أصحابها يعرضونها للبيع أو الإيجار. حصل تغير مفاجئ وغير مسبوق في هذا الشارع عندما اشترى بعض التجار وأصحاب الشركات هذه المقاهي والعمارات وحُولت إلى مكاتب للإيجار ومطاعم ومحلات للملابس، لا أحد يعلم بماذا تتاجر وقد تغيرت الديموغرافية البشرية للمنطقة. وبدلاً من أن نصطبح بواجهات محلات للكتب والموسيقى وعيون الطلبة التي أتعبتها القراءة، صرنا نصطبح بسيارات فخمة تقف على جانبي الطريق يترجل منها أصحاب الكروش والجيوب المتخمة بالدولارات. فيما تحولت بقية المقاهي والمحلات الى مطاعم تقليدية تفوح منها روائح الشواء وضجيج الزبائن الوافدين غالباً من مناطق نائية بسياراتهم الفارهة. نحن الطالبات، لم نعد نجد مكاناً آمناً نجتمع فيه.

الحرب والحصار لم يبقيا من تلك المقاهي سوى القليل، وتلك حاولت أن تقاوم وتحافظ على خصوصيتها، لكنها لم تصمد كثيراً، إذ تحولت هي الأخرى الى مقاهٍ للشيشة ولعب البليارد ومراكز للإنترنت يجتمع فيه الشباب للتواصل مع المجاميع المتشددة حول العالم، أو اختلاس لحظات لمشاهدة موقع "إباحي". كان هذا حال الشارع في آخر زيارة لي العام 2008.
بعد تحرير المدينة من داعش قبل سنتين، حاول بعض الشباب والمهتمين بتاريخ المدينة والحركة الثقافية فيها، استعادة بعض ملامح هذا الشارع بافتتاح أول مقهى باسم "مقهى قنطرة الثقافي" الذي أسسه السيد صالح إلياس مع مجموعة من الشباب، بدعم منظمة أوروبية مهتمة بتنشيط الحركة الثقافية في الموصل. ومنذ افتتاح المقهى، تسعى إدارته إلى تطوير برامجه وتنويعها بين الأمسيات والندوات الأدبية وبين الموسيقى والفن الشعبي والحديث. ورغم أن الطابع الذكوري ما زال يتصدر صور المقهى، إلا أن إدارته تحاول قدر الإمكان اشراك النساء في أنشطتها، مثل إقامة قراءات شعرية أو دورات تدريبية، أو ورش عمل وتواقيع لإصدارات أدبية. ومع بطء استعداد الناس لاستقبال الحياة العادية مرة أخرى، فأنشطة المقهى تعيد بعض الحركة في مفاصل الشارع بعدما شُلّت تماماً في السنوات الماضية. بحسب صاحبها السيد إلياس، فإن المقهى يحاول أن يربط بين الماضي والحاضر بمزج روح المدينة العتيقة في ديكور وتصميم المقهى وتنوع أنشطته الثقافية ومد جسور التعاون بين الجيل السابق والجيل الشاب، الذي يتطلع إلى مدينته أن تكون كسابق عهدها في يوم من الأيام. ربما لا يسد هذا المقهى جوع الشارع للحياة والحيوية، لكنه على الأقل يدل على نبض ما في شارع دُمرّ مراراً بالحرب والإرهاب، وظننا أنه لن يعود إلى الحياة يوماً. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها