الإثنين 2018/11/19

آخر تحديث: 11:44 (بيروت)

قيامة أرطغرل

الإثنين 2018/11/19
increase حجم الخط decrease
يواصل مسلسل "قيامة أرطغرل" تربّعه على عرش المسلسلات التركية بعد عرض أولى حلقات موسمه الخامس قبل أسبوع. تدور أحداث هذا المسلسل الطويل في القرن الثالث عشر، وتتناول سيرة أرطغرل بن سليمان شاه، والد عثمان الأول مؤسس الدولة العثمانية، وقد بدأ عرضه في نهاية 2014، وحصد نجاحاً واسعاً تجاوز بسرعة حدود الدولة التركية، إذ بُثّ في أكثر من 85 دولة، وموسمه الحالي هو الأخير، وهو بمثابة مقدّمة لمسلسل جديد يحمل عنوان "قيامة عثمان غازي".

في 20 أيار/مايو 1935، نشرت مجلة "الرسالة" مقالة انطباعية بعنوان "آيا صوفيا" أشار فيها الشيخ علي الطنطاوي إلى بدايات السلطنة العثمانية، وقال: "ومن هم الأتراك لولا الإسلام؟ على أي حسب يتكلمون، وبأي نسب يفخرون، وبأي ماض يعتزون، وبأي مجد يباهون؟ أبمجد رعاة البقر في تركستان، أم بمجد أرطغرل بك، وقد جاء من مشرق الشمس بدوياً جافياً فقيراً لا يملك إلا أعنة ركائبه، وطنب خيامه، يفترش الغبراء، ويلتحف السماء، فصار أحفاده بالإسلام سادة القارات الثلاث؟". بهذه الكلمات، اختصر العلامة السوري مسيرة أرطغل بك الذي جاء من العدم، ومهّد لبناء دولة سادت على ثلاث قارات.

من يكون أرطغل بك، والد أوّل السلاطين العثمانيين؟ نقرأ في كتاب "تاريخ سلاطين بني عثمان"لـعزتلو يوسف بك آصاف: "لقد اختلف اكثر المؤرخين في أصل سلالة آل عثمان، فالبعض ينسبون هذه العائلة الشريفة إلى سلالة عيسى بن اسحق وبعضهم يذهب أنها من طائفة بني قطورة جاءت من الحجاز بسبب القحط ونزلت في بلاد القرمان، وكلّ فريق من المؤرخين يسرد الدلائل التي تؤيد مذهبه وتقوي حجته، لكنهم قد أجمعوا ان جد آل عثمان هو سليمان شاه، أتى بجماعته عام 1200 ميلادية الموافق لسنة 621 هجرية، ونزل في صحاري بلاد أرمينية الكبرى حيث مكث نحو سبع سنوات اشتعلت أثناءها نار الحرب بين الخوارزمي وعلاء الدين سلطان قونية وكبير السلاجقة، فتحزب سليمان شاه إلى السلطان علاء الدين ونزل مع جيوشه إلى ميادين ألوغي ولبث يكافخ معه حتى انتصر على اعدائه بواسطته. وفي عام 628 هـ، لما أراد سليمان شاه المحكي عنه مغادرة تلك الأصقاع قاصدا عربستان، مرّ بجماعته على نهر الفرات وبينما كان يعبره مات فيه غريقا ودُفن عنده في مكان يُعرف الآن بمزار الأتراك، وترك أربعة أولاد هم سنقوركتين وكون طغدي وأرطغرل ودوندر. فرجع سنقوركتين وكوّن طغدي إلى ناحية الشرق، وبقي أرطغرل ودوندر عند السلطان علاء الدين وحضرا معه جملة حروب، فأظهر فيها أرطغرل البسالة والإقدام، ثم وقعت حرب شديدة بين السلطان على أعدائه فشتّت شملهم وأباد أربهم، فكافأه علاء الدين بأن أعطاه بلاد سكود واسكي شهر. عاش ارطغرل تسعين عاما وتوفي عام 680 ودفن بمدينك سكود، تاركا ثلاثة أولاد وهم عثمان بك وساوجي بك وكندوز بك، وقد تقلّد منهم قيادة الجيش عثمان بك بالنظر لشجاعته وبسالته، فأسّس بناء الدولة والملك".

غرق سليمان شاه مع بعض حاشيته في الفرات قرب قلعة جعبر عام 1231، ولم يُعثر على جثته، فأقيم قبر رمزي له وآخر لأحد وزرائه قرب منحدرات القلعة الغربية. بعد ثلاثة قرون، انتصر السلطان سليم الأول على المماليك في معركة مرج دابق نواحي حلب يوم الثامن من آب 1516، وشيّد مقاما يليق بجد بني عثمان اطلق عليه الرحالة والزوار اسم "المزار التركي". في أواخر القرن التاسع عشر، وفي ظل حكم السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، جرى تجديد هذا المزار وتوسعة المنطقة المحيطة به. بعد بضعة سنوات، سقطت الدولة العثمانية عند انتهاء الحرب العالمية الأولى، وشرعت الدول العظمى المنتصرة في رسم حدود دول الشرق. ضمّت الدولة التركية الفتيّة الأقاليم السورية الشمالية إليها بموجب "اتفاق انقرة" في 1921، وباتت كيليكيا والجزيرة الفراتية العليا جزءا من أراضيها. بموجب المادة التاسعة من هذه الاتفاقية، بقي ضريح سليمان شاه تحت السيادة التركية، ورُفع عليه علم تركي في أرض تقع تحت السيادة السورية.

ظلّ ضريح سليمان شاه في موقعه قرب قلعة جعبر، إلى أن عمدت الدولة السورية إلى إنشاء سد الفرات في 1968، فخشيت من ان تغمر مياه السد هذا الضريح، وقررت نقله إلى موقع آخر، وتمّ ذلك في عام 1973 حيث نُقل الضريح إلى تلّة مرتفعة شمال تل "قره قوزاق"، على بعد ثلاثين كلم من مدينة منبج في ريف حلب، على بعد ثلاثين كيلومترا من الحدود التركية شمالا. في 2010، عمدت اللجنة المشتركة "لبرنامج التعاون الإقليمي السوري التركي" إلى صيانة الطريق المؤدية للضريح باعتباره مقصدا سياحيا للزوار الأتراك، وزار الرئيس التركي عبد الله غل ضريح سليمان شاه، وأعلن من هناك عن إقامة أعمال صيانة وترميم فيه. تحول الضريح المنسي إلى مقصد سياحي في عهد ازدهار العلاقات السورية التركية، ومع اندلاع الأزمة السورية، عبّرت حكومة أنقرة أكثر من مرة عن حرصها على هذا الموقع، وأكدت أنها ستدافع عنه بعد سيطرة تنظيم داعش على المنطقة التي يقع فيها، وذلك إثر تدمير العديد من الأضرحة والمساجد في سوريا. رأى وزير الدفاع عصمت يلماظ "إن تقدم تنظيم داعش باتجاه سليمان شاه يشكّل خطراً على الأمن القومي". وأضاف: "واجبنا الأول هو الدفاع عنه، وتأكدوا أننا لن نتردد لحظة في القيام بكل ما يلزم لحمايته".

في شتاء 2015، دخلت قوة تركية الأراضي السورية فجراً، وعبرت قرية آشمة القريبة من مدينة كوباني التي تُعرف بـ"عين العرب"، وتقع على مسافة كيلومترين من الحدود التركية، ونقلت رفات "الجد الأكبر" للسلالة العثمانية من ضريحه المحاصر من قوات "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام"، وأجلت ثمانية وثلاثين عسكريا تركيا كانوا يحرسون هذا الضريح في عملية شاركت فيها نحو مئة عربة عسكرية. خرج سليمان شاه من الظل إلى النور في زمن شاعت فيه بطولات ابنه أرطغل على الشاشة الصغيرة من خلال مسلسل طويل حمل اسمه. وتثير هذه الشهرة الحديثة العهد الدهشة، إذ إن أرطغل معروف تاريخيا من خلال العملات التي سكّها ابنه عثمان الأول باسمه مع ذكر اسم والده كما جرت العادة، أما سيرته فمجهولة، وقد جرى كتابتها في مرحلة لاحقة في زمن سيادة العثمانيين على إمبراطورية مترامية الأطراف.

تقول "الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي" في تعريفها بهذه الشخصية التاريخية: "هو أرطغرل بن سليمان، جد خلفاء آل عثمان، ووالد عثمان خان مؤسس الدولة العثمانية، ولا يُعرف عن حياته الأولى سوى أن أباه سليمان كان يتزعّم قبيلة "قاتى" التركية، وكان موطنها بالقرب من مرو، قاعدة بلاد التركمان. هاجرت قبيلته فيمن هاجر من القبائل، حين اكتسح المغول أراضي الدولة الخوارزمية، فانتهى بأرطغرل المطاف بعد موت أبيه إلى الأناضول، وهناك لمع نجمه في مساعدة الأمير علاء الدين كيعباد، حاكم إمارة قرمان، وهي إحدى إمارات دولة سلاجقة الروم، فكان الأمير يقطعه عقب كل انتصار بعض ما يقع تحت يديه من الأراضي والأموال. وظفر أرطغرل بلقب أوج بكى، أي محافظ الحدود، من الدولة السلجوقية، ولم يكتف بذلك، بل ظل يتوسّع باسم السلطان علاء الدين حتى هاجم الدولة الرومانية الشرقية (البيزنطية)، ونجح فى توسيع منطقته، فضمّ إليها مدينة إسكى شهر واتّخذها مقرًّا، وظل على هذا الوضع حتى توفّيسنة 1228، وخلفه ابنه عثمان الذي سُمّيت باسمه الدولة العثمانية".

في الخلاصة، هاجر سليمان شاه مع قبيلته إلى أرمينية يوم غزا المغول خراسان، وبعد وفاته، خلفه ابنه الأوسط أرطغرل، فواصل تحركه نحو الشمال الغربي من الأناضول حيث برز في القتال إلى جانب السلاجقة، فمنحه سلطان قونية ثغراً على حدود سلطنته مع الإمبراطورية البيزنطية، وأتاح له فرصة توسيعها على حساب هذه الإمبراطورية. نجح أرطغرل في إدارة هذا الثغر، وبعد وفاته، تولى عثمان الأول قيادة قومه ابنه عثمان الذي سار على نهج سياسته في التوسع، وأسّس دولة مستقلة حملت اسمه.

حول هذه السيرة القصيرة، نسج الرواة قصة "قيامة أرطغرل" التي يتواصل عرضها منذ أربع سنوات، وفيها يواجه البطل الأعداء والخونة والجواسيس في رحلة محفوفة بالمخاطر والآلام. ويرى البعض في هذا المسلسل عملا سياسيا دعائيا أُنجز لمساندة سياسة إردوغان في مشروعه الرامي إلى تحوير الهوية التي عُرفت بها الجمهورية التركية منذ انشائها في 1923، كما كتبت جريدة "لو موند" الفرنسية في 13 تموز الفائت. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها