الثلاثاء 2018/11/13

آخر تحديث: 14:38 (بيروت)

مهرجان أرصفة زقاق.. بابل الهويات والذاكرة

الثلاثاء 2018/11/13
مهرجان أرصفة زقاق.. بابل الهويات والذاكرة
مسك الختام
increase حجم الخط decrease
اختُتم مهرجان أرصفة زقاق الذي امتدّ على مدى 11 يوماً، مقدماً 45 فعالية تنوعت بين عروض المسرح والرقص والموسيقى والتجهيز الفني، كما قدّم المهرجان، الذي يحتفي بنسخته الثالثة، مجموعة من الندوات وحلقات النقاش وورشات عمل استضافت أسماء بارزة في المشهد المسرحي دولياً. 

لا يهدف مبرمجو المهرجان الى استضافة أسماءٍ بارزة فحسب. هنالك ما يتعدى ذلك ليتناغم مع طرح فرقة زقاق التي تعتبر أن ممارسة المسرح بحد ذاته هو فعل سياسي. هذه الفرقة التي تأسست بالتزامن مع حرب تموز 2006 وانشغلت منذ ذلك الحين بشتى المواضيع الشائكة في لبنان، لا يمكن الا أن تنظم مهرجاناً على نسق طرحها. فكانت تيمة المهرجان لهذا العام سؤال الهوية بمعناها الشامل الثقافي، والإثني والجندري والوطني والشخصي الإجتماعي، وعلاقة هذه الطبقات المتعددة للهوية مع فكرة العدالة. وكان لافتاً ان المهرجان أتاح الدخول المجاني للطلاب وعاملات المنازل المهاجرات والعاطلين عن العمل وللعاملين في مجال الفن من فنانين وتقنيين وإداريّين. هذا الخيار يستكمل طرح سؤال الهوية والعدالة بفعل عملي، لربما تصلح أرصفة زقاق ما أفسدته الهويات الخائفة والمتطرفة والعنصرية في بلاد الله الواسعة... أو الضيقة.



كان افتتاح المهرجان مع تجربة عرضٍ فريدة من نوعها تحت عنوان "مراقبة الرجل" لكاتبة بريطانية مجهولة الهوية. هو "بحث كوميدي صريح وغير متحفظ، موضوعه الرغبة الأنثوية الجنسية المغايرة". الفريد في هذه التجربة أن النص يقدّم للمؤدّي في لحظة العرض الذي يباشر بقراءة مونولوغ طويل لامرأة تتحدث عن رغباتها وتجاربها الجنسية منذ سن المراهقة. معنى ذلك أن الممثل لا يعرف ما ينتظره من مضمون وهذا جزء لا يتجزأ من فكرة ومفهوم العرض: أن يكون المؤدي ذكراً وألا يستلم نسخته من النص الا أمام الجمهور. هذا العرض الذي قُدِّم سابقاً في رويال كورت وفي مهرجان الفرنج في أدنبره، قُدِّم للجمهور اللبناني على مدى أمسيتين حيث تناوب على لعب الدور فؤاد يمين في الليلة الأولى، وعبدالرحيم العوجة في الليلة الثانية. بالإضافة الى الموقف السياسي النابع عن خيار رجل لأداء مونولوغ يتحدث عن رغبات امرأة، هنالك متعة في مشاهدة اللحظة الأولى التي يرتطم فيها ممثل مع نص بهذه الجرأة حيث الإرتباك الذي يطال رجلا يقرأ رغبات امرأة للمرة الأولى يتحول الى فعل تلصص ينتج عنه متعةً مضاعفة.

تنوعت العروض وحل المخرج السويسري، ميلو راو، ضيفاً على المهرجان، مقدماً سلسلة من اللقاءات وعارضاً ثلاثة أعمال له، (سنخصص لها مقالاً منفصلاً). كما أتاح البرنامج المسرحي لمعهد صندانس، الفرصة  للجمهور اللبناني التعرف على تجارب مسرحية أميركية مغايرة. فعرض"الحلم بزنزيليه" و"نيران جميلة". الأول وهو عمل مسرحي موسيقي للمغنية سومي قدّم نسخة ممسرحة لـ"حياة الفوق -عادية للمغنية والناشطة الجنوب أفريقية ميريام مكيبا".



أما العرض الثاني – "نيران جميلة" لشارلاين وودارد، فينقل معيوش الممثلة الشخصي عبر "خمس مقالات من سيرتها الذاتية" تتنقل من لحظة ولادتها المضحكة الى تعلمها الأحرف، الى فصول لا تخلو من الطرافة الممزوجة ببراءة  تؤسس لخفة دم تخترق العظام... حتى أقسى اللحظات التي عاشتها تلك الممثلة كانت عرضة لتلك النظرة الخاصة بوودارد. تشير مثلاً الى العنصرية التي طالتها كفتاة سوداء منذ صغرها وتستحضر ليلة التقائها بالكو-كلوكس -كلان عندما كانت تقضي بعض الوقت عند جدتها الحاضرة بقوة في العرض. كانت هي وأختها طفلتين، عندما نظرتا الى ألسنة اللهب للمرة الأولى فكرتا أن تلك النيران هي نيران جميلة وككل طفلة، شارلين كانت تهلل للنار... لم تكن تدرك أن تلك النيران هي نيران الاحتفاء بالقتل وبإلغاء الآخر المختلف. يتميز عمل وودارد المونودرامي بعفويته وحقيقيته بحيث لن يستطيع المشاهد أن يحيد بصره أو سمعه لثانية واحدة عن ممثلة تعيش فصولاً من حياتها مجدداً. الأهم من هذا خيار شارلاين الإصرار على تظهير القسوة التي تعرضت لها في طفولتها كفتاة سوداء، على نحو يستدعي الفرح والإعجاب بالقوة والصلابة، كونهما إرثا جماعياً ينتقل من الجدة والجد الى الأم والأب، دون السقوط ولو لثانية في موقع الضحية. وكما في الحياة حيث لم تعتمد الا على نفسها، لم تعتمد وودارد على الخشبة الا على نفسها وعلى قدراتها كممثلة دون اللجوء الى  قطعة أكسسوار واحدة أو الى كرسي لتسند جسمها عليها. قدمت شارلاين هذا العرض للمرة الأخيرة في أميركا في أواخر التسعينات ولم تزره ثانيةً الا عند قدومها الى بيروت.

أثر الهوية هذا له وقعه أيضاً في عروض أخرى: المخرج الهندي شانكار فينكاتيسواران، قدم  على خشبة زقاق عرض "القانون الجنائى للقبائل" وهو قانون وُضِع قيد التنفيذ العام 1871 إبان الإستعمار البريطاني. وفقاً لهذا القانون، هناك مجموعات اثنية وإجتماعية "مدمنة على ارتكاب الجرائم..." مثل السرقات وبما أنه قد صُنف أعضاء تلك المجموعات بـ"مجرمين إعتياديين"، تُفرض قيود على تحركاتهم، ويُجبر الرجال البالغين على تقديم تقارير أسبوعية للشرطة. يعود أصل تلك القيود التي فرضها الإستعمار الى نصوص هندوسية قديمة (Manusmriti Hindu texts – Cast System) تحدّد نظاماً طبقياً للعيش بين الجماعات وتمنع عنهم أبسط حقوقهم كشرب الماء. لعبة العرض فيها من الذكاء ما يجعل شرح هذا النظام على الخشبة لافتاً وممتعاً. 



جزءٌ مهم من أرصفة زقاق هذا العام هو منصة "فَوكِس لبنان"، التي تقدّم عروضاً منجزة أو مشاريع قيد الإنجاز لمدراء مهرجانات ومدراء مسارح قادمين من الخارج مدعويين، خصيصاً لحضور سلسلة كبيرة من العروض والقراءات وجلسات عرض أفكار عروض الخ.

يتيح فَوكِس لبنان، الذي كان فعالية منفصلة عن أرصفة زقاق، الى تمتين احتمالات التعاون أو الإنتاج المشترك بالإضافة الى نشر هذه الأعمال دولياً. من الأعمال المنجزة التي تستكمل طرح سؤال الهوية والتي لاقت رواجاً في السنة الأخيرة في لبنان والبلاد المحيطة هو عمل الممثلة والكاتبة رائدة طه الأخير "36 شارع عباس، حيفا" الذي تولى إخراجه جنيد سري الدين. على جري عادتها في السنوات الأخيرة، تسعى رائدة الى بناء سرديات حول الهوية الفلسطينية من خلال عائلتَي رافع وأبو غيدة. الأولى قررت البقاء في فلسطين و"أصبحت أسيرة لقدرها بحيث اضطرت الى تحمّل الجنسية الإسرائيلية بعد النكبة"، والثانية  طُردت من حيفا والجامع بينهما هو منزل. كذلك اشتغلت نانسي نعوس من خلال "فأدّبه لي" على تيمة الهوية الجندرية، وغاص كل من فادي توفيق وهاشم عدنان في "حكاية الرجل الذي سكن ظله" في طور تلاعب فيه بين الحقيقة والخيال، بين طبقات متعددة من التحولات والإخفاقات والإلغاءات التي تحيل الى حضور كيفورك كساريان وغيابه، الى حقيقة وجوده أو عدمها في تنقل بين الخاص والعام الذي يمهد لحضور بلدٍ أو غيابه.

كذلك أعادت فرقة زقاق تقديم "راسين بالإيد" الذي يتناول دوامة العنف الذي نعيشه عبر الإستعانة بنصوص شكسبير. تيمة العنف حاضرة أيضاً في أعمال غير منجزة، كـ"نفس عميق" للممثلة والمخرجة يارا بو نصار التي طرحت تساؤلاً حول كيفية تأقلم الجسد مع العنف اليومي الذي يحيطه.

ملفتٌ في المشاريع غير المنجزة، انشغال عدد ملحوظ من الفنانين بموضوعة الذاكرة والتي لا تنفصل عن غوصِ في الماضي، مع تفاوت أهمية طرحهما في سياق المشروع نفسه: كريستيل خضر، تعود الى الثمانينات في "أنا قلبي دليلي" مسائلة النشاط المسرحي خلال عقد من الزمن ينتهي مع إصدار قانون العفو لعام. آية متولي تستخدم تجاربها في الموسيقى الإلكترونية من أجل الغوص في ذاكرتها الخاصة. في مسرحية "الموعد" لحسن الملا نرى التاريخ يفرض سلطته على أحداث المسرحية جابراً شخصياتها على مواجهة الذاكرة. مشروع  رقصة الهو-ها لأنس يونس ينتقل من الذاكرة الشخصية الى الذاكرة الجماعية إنطلاقاً من قضية الهنود الحمر وصولاً الى الذاكرة السورية. مشروع "مجد ودموع" لفرقة غرام وانتقام يلجأ الى الأغاني والأفلام العربية القديمة...

كثرت الفعاليات في أرصفة زقاق، وتوثبت الهويات والعروض.. 11 يوماً من دون أن يتسنى لكل من شارك في هذا المهرجان أن يلتقط انفاسه... هي إحتفالية اذاً. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها