الإثنين 2018/10/22

آخر تحديث: 12:43 (بيروت)

بابل.. بين نبوخذ نصر وصدام حسين

الإثنين 2018/10/22
increase حجم الخط decrease
أعلنت "وزارة الثقافة والآثار والسياحة" في العراق أخيراً، أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (الأونيسكو) وافقت مبدئياً على ضم مدينة بابل الأثرية إلى لائحة التراث العالمي، وقالت إنها سترسل فريقاً من الخبراء المتخصصين لمتابعة تطبيق هذا الملف. ويأتي هذا القرار بعدما أصدرت المنظمة، العام 2009، بياناً يؤكد أن القوات الأميركية والبولونية التي شاركت في غزو العراق ألحقت أضراراً فادحة بالمدينة الأثرية يتعذّر إصلاحها.

قبل أن يكشف علماء الآثار عن بابل بزمن طويل، سمع العالم بهذه المدينة من خلال نصوص التوراة والإنجيل من جهة، وما نقله قدامى الرواة اليونانيين من جهة أخرى. في الرواية التوراتية، كانت بابل في البدء اسماً لبرج بناه أبناء نوح، إثر نهاية الطوفان، في أرض تقع ضمن مملكة نمرود في بلاد ما بين النهرين. بعد عهود عديدة، أضحت بابل عاصمة لولاية بين نهري دجلة والفرات، حملت الاسم ذاته. وكان أشهر حكّام هذه الولاية، الملك نبوخذ نصر الذي كان يتنزّه على سطح قصره ويقول: "أليست هي بابل العظيمة التي بنيتها لبيت الملك بقوة اقتداري ولجلال مجدي" (دانيال 4، 30).

خربت هذه الولاية على يد قورش الفارسي، الذي دخلها على غفلة ونهبها، لكن اسمها ظلّ حياً، وتحوّل في عهد المسيحية المبكر إلى اسم يرمز إلى روما، كما إلى كل مملكة آثمة تجسّد الشر. تنبّأ صاحب "سفر الرؤيا" بسقوط هذه المملكة، وتردّد صدى هذه النبوءة على مدى قرون في أنحاء العالم المسيحي: "سقطت بابل العظيمة وصارت مسكناً لشياطين ومحرساً لكل روح نجس، ومحرساً لكل طائر نجس وممقوت، لأنه من خمر غضب زناها قد شرب جميع الأمم، وملوك الأرض زنوا معها، وتجار الأرض استغنوا من وفرة نعيمها" (18، 2-3).

في المقابل، قدّم المؤرخون اليونانيون القدماء صورة مغايرة تماماً لبابل، واستفاضوا في وصف علومها وعمرانها وفنونها. وشكّلت هذه الأخبار، مع مرور الزمن، أساساً لروايات عديدة دخلت الذاكرة الجماعية. أبرزها تلك التي وصفت الحدائق المعلّقة، ثانية عجائب الدنيا السبع. هكذا امتزجت صورة المملكة الفاجرة، بصورة المملكة البهية، في المخيلة الأوروبية حتى مطلع الأزمنة الحديثة، حينما كشف المنقّبون آثار المدينة المندثرة، ونجحوا في تحديد معالمها المادية الحقيقية.

تكرّر اسم بابل عشرات المرات في أسفار التوراة والإنجيل، ولم يُذكر في القرآن إلاّ مرةً واحدة في آية طويلة تتحدّث عن "الملكين ببابل هاروت وماروت" (البقرة 112). في تفسيرهم لهذه الآية، نقل كبار العلماء طائفة من الأخبار الخاصة بأرض هاروت وماروت، وجاء في "لسان العرب": "بابل موضع بالعراق، وقيل موضع إليه ينسب السحر والخمر". والبلبلة "اختلاط الألسنة"، "وقيل سمّيت أرض بابل لأن الله تعالى حين أراد أن يخالف بين ألسنة بني آدم بعث ريحاً فحشرهم من كل أفق إلى بابل فبلبل الله بها ألسنتهم ثمّ فرّقتهم تلك الريح في البلاد". ويمكن القول إن هذه التفاسير تتفّق بشكل كبير مع الرواية التوراتية.

وتقدّم كتب الجغرافيين العرب، صورة أخرى لبابل هي الصورة الأقرب إلى الواقع. في القرن الثاني عشر، كتب الإدريسي في "نزهة المشتاق": "قرية بابل هذه قرية صغيرة وكانت قبل مدينة كبيرة، وهي أقدم أبنية العراق في زمن الكنعانيين وسكنوها وتداول ملوكهم عمارتها وبها بقايا بنيان وآثار قائمة تخبر أنها كانت في ما مر من الأزمان مصراً عظيماً". وفي القرن الرابع عشر، سبق ابن خلدون أعلام أوروبا، وأعلن في مقدمّته الشهيرة أن علوم بابل وغيرها من الأمم ما زالت مجهولة، "فالعلوم كثيرة والحكماء في أمم النوع الإنساني متعددون، وما لم يصل إلينا من العلوم أكثر مما وصل، فأين علوم الفرس التي أمر عمر رضي الله عنه بمحوها عند الفتح؟ وأين علوم الكلدانيين والسريانيين وأهل بابل وما ظهر عليهم من آثارها ونتائجها، وأين علوم القبط ومن قبلهم؟ وإنما وصل إلينا علوم أمة واحدة وهم يونان، خاصة لتكليف المأمون بإخراجها من لغتهم واقتداره على ذلك بكثر المترجمين وبذل الأموال فيها، ولم نقف على شيء من علوم غيرهم".

خرجت بابل من الظلمة إلى النور في القرن التاسع عشر، على أيدي بعثات التنقيب الأوروبية التي نقلت أبرز آثارها المكتشفة إلى متاحفها. تجاوز هذه الاكتشاف حدود علم الآثار، مع فكّ النصوص الأدبية والتاريخية التي نقشت على عشرات الألواح الفخارية المطمورة بين أطلال بابل، وظهرت المدينة في صورة جديدة تماماً بعد نشر نصوص شرائعها وأناشيدها الطقسية وقصصها الدينية الخاصة بالخليقة والطوفان. فصار اسمها في القاموس العلمي اسماً حضارياً يختصر تطوّر الشرق القديم في ميدان الحقوق والعلوم والفنون. أدرجت منظمة الأونيسكو اسم الموقع في لائحة التراث العالمي، ثم عادت وحذفته في نهاية الثمانينات من القرن الماضي بسبب "تعدّي" السلطة العراقية على معالم المدينة الأثرية، وقيامها بإعادة بناء بعض معالمها بشكل لا يتماشى مع مبادئ علم الآثار.

برزت مدينة بابل في عهد الملك حمورابي، وتألقت في عهد الملك نبوخذ نصّر الثاني، مُنشئ الدولة البابلية الثانية والذي قضى قديماً على إسرائيل، واقتاد أهلها إلى الأسر، فخرجوا من ديارهم وأنشدوا في غربتهم: "على انهار بابل هناك جلسنا بكينا أيضاً عندما تذكرنا صهيون، على الصفصاف في وسطها علّقنا أعوادنا، لأنه هناك سألنا الذين سبونا كلام ترنيمة، ومعذّبونا سألونا فرحاً قائلين رنّموا لنا من ترنيمات صهيون" (مزمور 137). اعتبر النبي ارميا أن خراب إسرائيل على يد نبوخذ نصّر كان عقاباً إلهياً أراد منه الرب أن يؤدب اليهود الذين خانوا عهده. وتردّد صدى هذه الرواية في العالم الإسلامي، حيث عُرف الملك البابلي باسم بختنصر الثاني. هكذا نقل ابن تيمية عن بعض المشايخ قولهم: "هولاكو ملك الترك التتار الذي قهر الخليفة بالعراق وقتل ببغداد مقتلة عظيمة جداً، وكذلك قتل بحلب دار الملك حينئذ. هو للمسلمين بمنزلة بختنصر لبني إسرائيل، وكان من أسباب دخول هؤلاء ديار المسلمين ظهور الإلحاد والنفاق والبدع".

أعاد صدام حسين الاعتبار إلى نبوخذ نصر ونصب نفسه وارثاً له، فشرع بإعادة تشييد القصور في المدينة، ودفع ديوان الرئاسة إلى إقامة "مهرجان بابل الدولي". وعلى مثال ملوك بابل، الذين حفروا أسماءهم على ألواح فخارية مُدرجة في البناء، أُدخل اسم صدام حسين من خلال نص يقول: "في عهد القائد المنصور بالله صدام حسين، أُعيد بناء هذا القصر الذي كان قد بناه نبوخذ نصر". وجرى تثبيت الألواح الجديدة إلى جانب الألواح الأثرية المكتوبة باللغة المسمارية. وفي خضمّ الحرب العراقية - الإيرانية، أنفقت السلطة العراقية ملايين الدولارات على "إعادة بناء" بابل، ونقشت اسم حاكمها على الطوب الحديث المستخدم في هذه العملية، تيمناً بالملك نبوخذ نصر الذي كان يختم اسمه على الطوب الخاص بالمدينة.

سقط العراق في أيدي الغزاة الأميركيين، وسقطت معه بابل، والتقطت وسائل الإعلام صوراً لقصرها الجديد وما يحويه من حلل. فنياً، لا تحمل هذه الحلل أيّ قيمة تُذكر، إلا أنها تعكس صورة مشروع ضخم انهار وتهاوى، وهو ما زال يتهاوى إلى يومنا هذا.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها