الإثنين 2016/12/05

آخر تحديث: 15:27 (بيروت)

الاغتصاب بالزبدة... التانغو الأخير فوق نعش هوليوود

الإثنين 2016/12/05
increase حجم الخط decrease
من منّا لم يسمع بفيلم "التانغو الأخير في باريس" (Last Tango In Paris 1972)،  بطولة مارلون براندو والممثلة الفرنسية ماريا شنايدر وإخراج الإيطالي برناردو برتولوتشي، ولم يحاول مشاهدتهُ بنسخة أصلية غير مقطعة؟ ومن منّا لم يتأثر بقصة الفيلم وتفاصيله بعد مشاهدتهِ؟ وعلى مستوى الكتابة، من منّا لم يتأثر ولو بشكل غير مباشر بسردية الفيلم وصوره الشعرية رغم العنف الطاغي في القصة، عكس ما تصوره لنا مخيلتنا؟ ولكن كل ما في مخيلتنا عن الفيلم انهار بمجرد انتشار تصريحات المخرج عن واقعة "الاغتصاب بقطعة الزبدة" في الفيلم وتأكيده أن الممثلة لم تكن تعلم بالتفاصيل حتى اللحظة الأخيرة. 

ماريا شنايدر التي قامت بدور الفتاة الباريسية "جين"، كانت تبلغ من العمر وقتها 19 عاماً، وذكرت الحادثة في حوار مع الصحيفة البريطانية "دايلي ميل" العام 2007، أربع سنوات قبل وفاتها العام 2011، وأكدت أنها لم تكن تعلم بتفاصيل ما سيقوم به براندو في مشهد الاغتصاب إلا قبل لحظات من التصوير وأنها أحست بالإهانة و"بشيء من الاغتصاب" وكانت دموعها حقيقية، مع تأكيدها بأنه لم تحدث واقعة جنسية حقيقية، لكنها تقول أنه كان عليها أن تتصل بمدير أعمالها أو محامٍ لأنه من غير المقبول أن يُجبَر أحدهم على القيام بفعل من دون رضاه، لكنها تبرر عدم إقدامها على هذه الخطوة بأنها كانت صغيرة ولم تكن تعرف حقوقها! وقتها مر الحوار وتصريحها مرور الكرام، ولم ينتبه أحد لكلامها، بل ذهب البعض لأبعد من ذلك فاتهمها بأنها افتعلت القصة لجذب الانتباه أو الحصول على بعض المال، خصوصاً أن حياتها الفنية والنفسية والصحية كانت في تدهور وتعرضت إلى "تروما" بعد الفيلم ولم تقبل تمثيل أفلام فيها عُريّ من بعده رغم أدوار كثيرة عرضت عليها.


الضجة حدثت فقط عندما نُشر مؤخراً لقاء مصوّر في يوتيوب مع المخرج العام 2013، حيث  يؤكد أن مشهد الاغتصاب واستخدام الزبدة لم يكن في النص الأصلي، وإنما فكر به مع براندو في اليوم نفسه من دون إخبار الممثلة الشابة عمداً، بغية الحصول على رد فعلها كفتاة مُهانة، لا كممثلة! ويقول أنه يشعر بالذنب، لكنهُ ليس نادماً على تصوير المشهد.

وفي رد فعل سريع من ممثلات هوليوود، نشرت الممثلة المرشحة للأوسكار جيسيكا تشاستاين تغريدة في حسابها في "تويتر" حول القضية تقول فيها: "لكل من يحب هذا الفيلم أنتم تشاهدون رجلاً يبلغ من العمر 48 عاماً يقوم باغتصاب فتاة عمرها 19 عاماً. بتخطيط من المخرج. أشعر بالغثيان".


وحددت التغريدة بتعليقها على واجهة صفحتها لتكون مُشاهدة من أكبر عدد ممكن من المتابعين.

وللحادثة تداعيات كثيرة، بغض النظر إن كان قد حصل بالفعل اتصال جنسي أم لا، وتتلخص في ملابسات الحادثة نفسها: هل كان المخرج سيفكر بفعل المثل لو كانت الممثلة معروفة ومن نجمات فرنسا وقتها؟ الإجابة من المقالات والتحليلات التي تناولت القضية وقدمت ماريا على أنها لم تكن ممثلة معروفة، تقول: بالطبع لا. يبدو أن ما شجع المخرج وبراندو على هذه الخطوة هو عمر الممثلة اليافعة آنذاك وعدم شهرتها، فهي كانت بالكاد تبدأ مشوارها الحقيقي في السينما. ولماذا عندما تحدثت هي عن الحادثة لم تحصل هذه الضجة؟ ولماذا تم التشكيك في كلامها؟ وهل كان الأمر يحتاج إلى شهادة أحد الرجُلين: برتولوتشي أو براندو، لتثبُتَ صحة كلامها؟

وهذا ما يحيلنا أيضاً إلى فكرة تقديس المشاهير وتنزيههم عن الانتهاكات غير الآدمية. أما التداعيات الأخرى التي نلمسها من هذه الحادثة فهي: متى نعتبر الانتهاك اغتصاباً! هناك مَن يقلل من شأن الحادثة لأنه لم يحدث اتصال جنسي حقيقي، بشهادة الممثلة نفسها، لكنها أكدت أيضاً أنها أحست بالإهانة، وحرفياً قالت، "وبشيء من الاغتصاب"! وهنا يجرنا الموضوع إلى تحديد "أركان" الاغتصاب وشروطه مثلاً؟!

هل علينا اعتبار أي تحرش أو انتهاك خصوصية جسد، اغتصاباً؟ أم يجب أن تتوافر فيه شروط "الهتك"؟ كم حادثة "اغتصاب" تحدث عن طريق التحرش المباشر باللمس في أماكن عامة وأماكن العمل من المدراء والذكور، ما يترك أثراً نفسياً جارحاً للضحية؟

كم من حالات اغتصاب تحدث للقاصرات بتزويجهن بلا وعي أو وافقة منهن، وشرعنته عبر القانون؟ كم حادثة اغتصاب تحدث تحت اسم الشرعية بإجبار الزوجة على ممارسة الجنس وهي لا تعرف أنه اغتصاب؟ ولماذا نعتبر ما يقوم به "داعش" من جرائم في حق النساء "المختطفات" اغتصاباً، بينما لا نعتبر مكاتب زواج المتعة والمسيار ومواقع الزواج الإسلامي كذلك أيضاً؟ رغم أن معظمها تحدث تحت الظروف والملابسات نفسها، والنتائج واحدة، وهي علاقات مشوهة غير متكافئة قائمة على التجني على الآخر وانتهاكه. أسئلة كثيرة ما زالت تستوجب منا البحث والنقاش في جزئية انتهاك جسد ونفسية إنسان.

ببحث بسيط في تاريخ تعريف الاغتصاب سنجد أنه مرّ بمراحل عدة واضافة بعض الحالات لاعتبارها اغتصاباً، ومع ذلك ما زال الكثير منا يجهل أن بعض الانتهاكات يعتبر اغتصاباً حتى مع عدم توفر شرط الإيلاج!

هوليوود، حالها حال أوساط كثيرة، تحدث فيها الانتهاكات والتجاوزات، لكن يبدو أن نصيب غير المعروفين، منها، أكبر، كما في الحياة العامة، عندما تملك المال والسلطة يكون تعرضك للاضطهاد والظلم أقل بكثير، بينما يتعرض الآلاف من "المجهولين" لشتى أنواع الاضطهاد والانتهاك يومياً من دون أن ينصفهم القانون والمجتمع. المسألة في حادثة الزبدة هذه، تجاوزت "النسوية" التي يسخر منها البعض. فأمامنا حالة إنسانية تكاد تتكرر كل لحظة بأشكال مختلفة، خصوصواً إذا علمنا تفاصيل حياة ماريا الحزينة بعد الفيلم، وإقدامها على الانتحار في محاولة فاشلة للتخلص من الكآبة والتروما. نعم هذه صورة "نمطية" عن الظلم الذي يقع على الناس: شخص غير معروف، غير غني، صغير في السن وقليل الخبرة، والأهم أنها امرأة، وسط مجموعة مشاهير لهم حظوة في الوسط والمجتمع. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها