الأربعاء 2016/10/26

آخر تحديث: 12:36 (بيروت)

"مقالة في الحرية" لعزمي بشارة... وعي الإرادة

الأربعاء 2016/10/26
"مقالة في الحرية" لعزمي بشارة... وعي الإرادة
"ليس الطير حراً.. ولا يولد الإنسان حراً"(علي علوش)
increase حجم الخط decrease
في كتابه "مقالة في الحرية"(*)، يضع المفكّر عزمي بشارة، مسلَّمَتين أساسيتين ليبني فوقهما مفهومه للحرية وهما: الوعي الذي يعني نمواً دماغياً بيولوجياً طبيعياً يمنح القدرة على التمييز، والإرادة وهي الرغبة في المفاضلة والاختيار. ثم يمزج بين هاتين المسلّمتين بشكل تبادلي ليستنتج، منطقياً، أن الحرية هي "وعي الإرادة والإرادة الواعية في آن". 

يريد بشارة من هذه الهندسة الكلامية أن يربط المسؤولية الأخلاقية بالحرية، ثم يطور ارتباط الحرية بالأخلاق بمنحها صفة "القيمة"، فإذا ركزنا النظر في هذه المنظومة نجد أن الأخلاق تقع في القمة وترتكز بشكل كلي على الحرية التي تتطلب وعياً وإرادة، وتكتسب صفة القيمة لأنها تلعب دوراً مهما في ترجمة الإرادة الواعية أو وعي الإرادة، الخيار الذي يجعل صاحبه مسؤولاً بشكل أخلاقي عما اختاره.

من هذا المدخل يلج الكاتب مقالته، فيدلي بما يؤمن به منذ الصفحة الأولى، ثم ينوه، على سبيل تبرير اختياره هذا الموضوع، إلى أن للحرية حضوراً تقاطعياً مع ميادين الأخلاق والسياسة والقانون، وهي موضوعٌ حاضرٌ في كل المجتمعات، وخصوصاً تلك التي تعيش راهناً قمعياً استبدادياً.

يسرد الكاتب تعاريف للحرية، بحسب بعض الباحثين العرب، ليميز الحرية التي يقصدها، وهو بذلك يقول بأن الحرية ليست مفهوماً موحداً ومحدداً بشكلٍ تام. ولا يبدو راضياً عن طرق تعامل المثقفين العرب مع المفهوم، فقد لجأ بعضُهم إلى تفسيرات قديمة متوافقة مع تصورات الحرية بالمفهوم الغربي، أو تعاملوا مع الحرية من خلال حذف سياقاتها التاريخية، وفي الحالتين لم يتعدَّ فهمهم للحرية حدودَ أنها ضد الرق.

ثم يقدم الكاتب تعريفاً نافياً على هيئة عنوانٍ فرعيٍ، فيقول "ليس الطير حراً ولا يولد الإنسان حراً"، بما قد يسبب الصدمة، لكون العبارة تناقض ما هو مشهور شعبياً، ولكنه يعيدنا إلى المسلّمات التي بدأ بها المقالة/الكتاب ليؤكد على الوعي والإرادة، ويحدد بحسم، أن الإنسان وحده يحوز هذه الملكات فيحرِّمها الكاتب على الكائنات التي تقع تحت الإنسان، أو فوقه، بمعنى أنه ينفي العقل والإرادة عن الكائنات الميتافيزيقية. ثم يلجأ لتحديد أدق فيقول بأن الحرية "صيرورة" تنمو مع تكامل الوعي في الإنسان، وتصبح حاجة بعد الإحساس بألم فقدها. والحرية، مفهوماً، متعلقة بالوجود الإنساني المرتبط بدوره بالوعي والإرادة وهي بذلك غير موجودة خارج هذا البناء، فلا وجود لحرية أنطولوجية مستقلة عن الإنسان، أو سابقة له، ولا تتعلق الحرية التي يعنيها الكاتب بالاستنتاجات المبالغ فيها والمستخلصة من فيزياء الكم. وعلى الرغم مما في هذا المجال العلمي من مغريات وجواذب نحو تفسيرات متطرفة، إلا أن بشارة يكرر مسلّماته ويفصِّل الحرية عن مفهوم "العلية"، التي لا تعتبر عائقاً ولا تلغي المسؤولية الأخلاقية، فيبدو بهذا التوصيف قريباً جداً من تحليلات الفيلسوف كانط بشأن الحرية.

ينتقل الكاتب إلى الحرية كممارسة ونشاط فتصبح الدولة ضرورية، والنظام الديموقراطي بشكله الليبرالي لازماً، فهو الجهاز الذي "يحمي الحريات ويضمنها"، وهنا تصبح الحرية مسؤولية. فالإنسان مسؤول ليس فقط عن اختياراته بل عن نتائج تلك الاختيارات، وحريته ذات وجه سلبي وإيجابي فهي "الحرية من قيد ما" وهي "حرية من أجل غاية ما". يَعتبر الكاتب أن العقل هو شرط للإرادة وبهذه الإرادة يتمكن الإنسان من التغلب على "العلية" بخلق سلاسل جديدة. لا يحاول صاحب الدكتوراه في الفلسفة أن يتدخل ليعترض قانون العلية، ولكنه يخفف من حتميته بفسح المجال لإضافة أسباب جديدة تخلق ذات النتيجة، كالإرادة الإنسانية الواعية.

قبل أن يختم الكاتب حديثه عن الحرية يطرح ستة تساؤلات تبدو أنها الهدف النهائي من تمهيده السابق، فقد أوضح وجهة نظره الخاصة بالحرية، ثم، بعملية إثارة ثقافية، حاول تخليق حوارات من خلال طرح أسئلة تتعلق جميعها بالحرية وشروطها وتنوعاتها، وعلاقات الأفراد والمجتمع في ظل وجودها، وأضاف سؤالاً عصرياً يخص وسائل التواصل الاجتماعي والحرية.

في القسم الثاني من المقالة/الكتاب يمارس بشارة ذات النشاط المحفز للبحث والدافع للحوار بطرح سؤال عن العدالة، لا يشذ فيه عن موضوعه الرئيس في الحرية. يميل الكاتب إلى تعريف العدالة تعريفاً سلبياً وهي "منع الشر الكامن في الظلم بواسطة قواعد مفروضة"، ووجود القواعد يتطلب وجود عقد. وصولاً إلى صياغة العدالة على شكل مجموعة من الحقوق والواجبات التي تشكل توازناً بين المنفعة والحرية.

يربط الكاتب، الحرية، بالعدالة، ضمن سياق آخر وهو أن نقيض المساواة الأقصى هو العبودية التي تشكِّل أيضاً نقيضاً للحرية، لذلك فإن أي نضال في سبيل المساواة يتضمن الحرية بشكل آلي. بهذا يشتق الكاتب الحرية من المساواة بطرق مختلفة وتصبح الحاجة ضرورية لإيجاد معادلات مشتركة بينهما.

ينتهي الكاتب إلى معادلة واحدة تحقق الربط المطلوب وهي "الحرية قيمة أخلاقية توجه عدة حريات سياسية واجتماعية ومدنية لا بد أن يتمتع بها المواطن لتحقيق العدالة".

زخرت المقالة بنقاش مفهوم الحرية كما هو وارد في بعض الفلسفات الكبرى "أفلاطون، هيغل، كانط...." عرضها الكاتب وناقشها باختصار وكثافة وكان واضحاً اقترابه من مفاهيم كانط باعتماده الوعي والإرادة والمنشأة الأخلاقية ذاتها.

تطرق الكاتب إلى أفكار كثيرة بما يشبه التأريخ للحرية، بدءاً من أفلاطون، ووصولاً إلى الوجوديين مثل هايدغر وسارتر.. ويمكن أن تلعب هذه المقالة دوراً بيبليوغرافيا بإحالاتها إلى مرجعيات مهمة مثل توماس هوبز الذي أبدى ميلاً إلى الاستبداد المنظم..

مقاربة المقالة لمفهوم العدالة، مشابهة لعرض مفهوم الحرية، فقدّم الكاتب جوهر أفكار أشهر من تعرضوا لها، وأوجد صلة بينها وبين الحرية، وشكَّل بينهما جسراً من المنطق، من دون أن يبدي رأياً مباشراً، لكنه حافظ على مزاجه "الكانطي" طوال الوقت. لم تقدم المقالة نفسها بديلاً فلسفياً أو بنيةً أخلاقية منافسة، لكن الكاتب رغِب في لفت النظر إلى قيمة مهمة من قيم المجتمع، من خلال عرض تاريخي وفلسفي وبيبليوغرافي شامل، وحث أوساط المثقفين على مزيد من البحث في المفهوم وتعميمه. وقد عبّر عن شعوره إزاء هذا النقص، فأعرب عن أسفه "لغياب شبه كامل للبحث الفكري والفلسفي والتاريخي في مفهوم العدالة وتطبيقاتها". فرغم التسونامي الاجتماعي الذي تعيشه المنطقة، إلا أنها تعاني ركوداً في تداول الأفكار، بحيث يقودها هذا النقص إلى تبني أفكار مغلوطة تؤدي إلى نتائج درامية عنيفة.


(*) صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها