كان مستغربا أن تشهد الحفلة كلّ هذا الزخم. صحيح أن المهرجان الموسيقي الدولي الذي تستضيفه المدينة الصغيرة بات راسخا وذا شهرة، لكنّ السّاحة بدت خالية تماما طيلة يومين، صبحا ظهرا ومساء، كأنها مدينة أشباح، مثل ما يظهر أحيانا في أفلام السينما ولا نخاله يحدث في الواقع. حتى جوزيف، المقيم هنا منذ سنين، قال حين سألته: "هم هكذا... ربما كانوا في قراهم الجبلية". لكن كلّ هذه الحوانيت والدكاكين والمخازن الخالية التي تبقى مفتوحة، أعني ليست مقفلة لموسم عطلة أو ما يشابه ؟ حتى ورش الترميم الجاهزة معدّاتُها خالية تماما من العمّال!
المدينة التشيكيّة الصغيرة، فريدك ميستك، الواقعة على الطرف الشرقي للبلاد، على الحدود البولونيّة، لا توحي أبدا بأهميّة مهرجانها الذي تُدرج منشوراتُه أسماءَ فرق كبيرة ومهمّة جاءته من العالم أجمع... ذلك أنه وقبل بدء الحفل بربع ساعة لم يكن هناك في باحة البناء سوى بعض المنظّمين. وبدا العلم اللبناني، المرفرف بين أعلام أخرى، إزاء مغامرة غير محسوبة العواقب. أضف إلى ذلك أنّ برنامج السهرة لم يكن مترجما لا إلى التشيكيّة ولا إلى الإنكليزية، فكيف س"يفهم" الحضور – إن حضر – ما الذي ستغنّيه يولا؟! ثم... راحت تمطر بغزارة.
لكنّ القاعة امتلأت بدقائق.
كان التصفيق يعلو ويطول بين الوصلة والأخرى، وأحيانا تقاطع هتافاتُ الطرب والإستحسان العزفَ أو الأغنية. كأنّهم عرب ويفهمون بل ويتعاطفون عميقا مع ذاكرة وتراث هذه الأغاني، المأخوذة بمجملها من الفولكلور اللبناني والمصري والسوري والعراقي، إلى جانب بعض الموشّحات. وفي الواقع لم يكن هناك عرب بين الحضور. لكنّ صوت يولا خليفة الرقيق والحنون والعميق، والناعم والمتين في الوقت نفسه كخيط حرير، كان يجيء محمولا على عزف الفرقة المقدونيّة التي كانت ترافقها، كأنه امتداد للصوت، أو كأنّه قوّة وصخب يرفدان ويشدّان لطفه ونعومته. كطاقة ذكوريّة تعطي أنوثة الصوت أقصى مداها.
ربما هي هويّة هذا العزف ما يجعله متآلفا مع الموسيقى العربيّة ومتفاعلا بشدّة معها. فالعازفون جميعهم من الغجر. إنّهم "شرق" أيضا. ألكسندر، على الطبل، كأنّه من النوَر الذين نعرفهم يولّعون الأفراح عندنا. وغازمند على الكمان يشبه، في هيئته قبل عزفه، نموذج الغجري بالمطلق، فيبدو وهو يغنّي "فوق الشجر" قد مرّ ومكث في ساحات لنا. واسماعيل،على الكلارينيت، حمل هارلم إلى الأندلس وأطلق تطريب الجاز الأسود بارتجالاته البديعة في "حنّة يا حنّة"، وأوليفييه، على الكونترباص، لم ينقصه في "صحتُ وجدا" سوى نطق الحاء...
ما أجمل المزج والتلاقي والتهجين حين يفتح أفق التراث، أيّ تراث، باحترام وبتواصل إنساني عميق. فنماذج "تحديث" و"عصرنة" تراث الموسيقى العربيّة يتلقّى ضربات موجعة من أجل حشره في برامج تسويق وشهرة تكاد تقصم ظهره. والمؤلم في الأمر أنّ ذلك يلقى رواجا كبيرا ويصير شيئا فشيئا مرجعا معتمدا هنا في الغرب... أما نحن فنجده اختبارات دخيلة وتجريب أقرب إلى الإفتعال والحشر القسري لعناصر متنافرة لا علاقة لبعضها بالبعض الآخر...
هل يكون لما عانته هذه المنطقة – مورافيا – في تاريخ سيليزيا المأساوي التي عاشت نزاعات عنيفة طيلة القرن العشرين، وبخاصّة خلال الحرب العالميّة الثانية من سطو نازي ثمّ تهجير سوفياتي واسع "على الهويّة" رافقته إعدامات جماعيّة، هل يكون لشعوبها حساسيّة إلتقاط خاصة تخرجها من سكينة الثقافة الأوروبيّة الغربيّة وثوابت مرجعياتها؟
على أي حال، لم تشف تشيكيا تماما من جروحها الماضية ولو أنّها تحاول ذلك بجهد بائن. المدن المجمّلة والمتوأمة مع مثيلات من أوروبا الغربيّة - لضرورة دخول الإتحاد الأوروبي – أغلقت مصانع الصلب واستخراج الفحم التي كانت ركيزة اقتصادها، وسّعت طرقاتها وأعلت الفنادق... إلاّ أنّ المداخن المطفأة وأبنية المصانع الخراب بواجهاتها الضخمة المحطّمة الوسخة والمتداعية التي تطلّ على الطرقات ما تزال هناك... وسط بحور من الخضرة اللامتناهية.
في الأيام القليلة التي قضيناها في تلك البلاد بدا الناس هناك في جهد متواصل لكنّه جهد يبدو عن غير اقتناع. لا أحد منهم يبدو مستعجلا لاستقبال السوّاح، والتكلّم بالإنكليزية أو بيعهم أيّ شيء. والبائع في السوق الحرّة في المطار لا يردّ على أسئلة الزبائن. ومن هيئة يديه تخمّن بسهولة أنه مزارع ينتظر بلهف أوان العودة إلى حقله...
الناس يشبهون أماكنهم أيضا، وأهل تشيكيا لم يتغربنوا بعد تماما.. حتى الآن.