أفرز الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في حزيران/يونيو 1982 وخروج منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس، نمطاً جديداً من العلاقة بين نظام الأسد والقوى الفلسطينية، ولعل من أبرز سمات تلك العلاقة هي حالة التوتر التي وصلت إلى درجة القطيعة ومن ثم الصدام العسكري.
ولعل جذر المشكلة القائمة بين الطرفين آنذاك هو رفض قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لاستلاب قرارها والدخول تحت مظلة نظام دمشق، مما دفع الأسد الأب آنذاك إلى محاولة إيجاد منظمة تحرير بديلة من خلال ولاء بعض القادة الفلسطينيين لنظام دمشق. إلا ان تلك المحاولة لم تصل إلى مبتغاها المطلوب بسبب التفاف الحاضنة الشعبية الفلسطينية حول قيادتها الشرعية في ذلك الوقت، الأمر الذي جعل نظام الأسد في بحث دائم لإبقاء الورقة الفلسطينية بيده كأداة ضرورية وغطاء شرعي لخطابه الممانع الذي يتخذ من قضية فلسطين شعاراً له.
في أواخر العام 1993 برز حدثان متوازيان على الساحة الفلسطينية جعلا نظام الأسد يفكر من جديد بمشروع استثمار الورقة الفلسطينية، أولهما اتفاقية أوسلو التي جعلت قيادة منظمة التحرير في حالة حرجة أمام الشعب الفلسطيني نتيجة رضوخها للضغوط الاميركية التي أقنعتها بمشروع (غزة أريحا أولاً)، ولكن ما إن تكشف زيف الوعود الأميركية والتفاف إسرائيل على تلك الاتفاقية حتى ظهر شعور كبير بالإحباط على الساحة العربية والفلسطينية.
أما الحدث الثاني فتمثل بظهور قوى الإسلام السياسي في المنطقة العربية باعتبارها البديل عن فشل القوى والأنظمة الرسمية العربية، وفي فورة هذا الصعود ظهر التيار الإسلامي الفلسطيني مُمثلا بـ"حركة الجهاد الإسلامي" وبعض القوى الأخرى التي تجمعت في حركة المقاومة الفلسطينية (حماس) بزعامة الشيخ أحمد ياسين، وقد وجد نظام الأسد في احتضان هذا التيار الإسلامي فرصته من جديد، فأقام علاقات جيدة مع حركة حماس وجعل من دمشق ملاذاً لها، إذ وفر له الخطاب الراديكالي للحركة فرصة جديدة لاستثماره في مشروعه الممانع.
ومن جهة أخرى لم تغفل إيران عن المساهمة في هكذا مشروع لتحقيق هدفين بآن واحد، يتجسد الأول بمحاولة احتواء هذا التيار الديني السني واستثماره سياسياً، ويتمثل الثاني بإضعاف القيادة الشرعية الفلسطينية كانتقام منها بسبب انحياز منظمة التحرير إلى جانب العراق أثناء حربها مع إيران طيلة ثماني سنوات.
في تلك المرحلة، بدا هناك اصطفافاً واضحاً يجمع نظام الأسد وإيران وحزب الله وحماس في حلف واحد، مقابل تيار ياسر عرفات الذي بدا مكبلاً باتفاقية أوسلو والضغوط الاميركية والإسرائيلية، إذ أظهر هذا الاصطفاف حلف طهران والأسد والتيار الإسلامي الفلسطيني على أنه حلف مقاوم ومناهض للعدو الصهيوني المدعوم اميركياً، في مقابل حلف ضعيف مهادن لأميركا وإسرائيل في المنطقة، وهكذا أصبحت ورقة حماس بقبضة إيران والأسد، كما باتت حماس محكومة بالدعم السوري الإيراني الذي جعلها تجد في هذين النظامين الباب الوحيد للدخول إلى المعترك السياسي، كما وجدت فيهما مصدراً للدعم المالي واللوجستي.
لقد كشفت ثورات الربيع العربي والثورة السورية على وجه الخصوص مسألتين هامتين، تتمثل الأولى بفضح الوجه الحقيقي للسياسة الإيرانية التي كان يهمها التمدد والتوسع والهيمنة على الدول العربية في المنطقة أكثر بكثير من اهتمامها بمقاومة إسرائيل، وتمثلت الثانية بزيف الخطاب الرسمي لنظام دمشق حول مسألة الممانعة والمقاومة، إذ أظهرت الوقائع أن الأسد ومنذ العام 2012 هو أول من استجار واستقوى بإسرائيل في مواجهة شعبه، الأمر الذي جعل حركة حماس – ونتيجة حرج أخلاقي امام كوادرها التي انخرط قسم منهم الى جانب الفلسطينيين السوريين بثورة الشعب المحقة، تغادر دمشق وتقطع علاقاتها من نظام الأسد تجاوباً مع الثورة السورية واحتجاجاً على ما يمارسه الأسد بحق شعبه، وتماشياً مع المواقف التركية والقطرية وموقف القيادة المصرية آنذاك، مع حرصها في الوقت ذاته على إبقاء علاقتها متينة بإيران حرصاً على استمرار التمويل والدعم.
إلّا ان استمرار تلك المعادلة لا يمكن أن يدوم، وخصوصاً أن إيران باتت تنظر إلى النظام في دمشق بعين الوصاية التامة، ونتيجة لضغوط لم تكن خافية على أحد دفعت طهران قيادة حماس مجدداً إلى طرق أبواب دمشق، وتمثل ذلك من خلال استدعاء بشار الأسد الى طهران لإعطائه التعليمات بالقبول، وربما كان هذا المسعى الإيراني منسجماً مع رغبة ضمنية لقيادات حماس للعودة إلى دمشق نطراً لتهافت العديد من الأنظمة العربية تجاه دمشق، مدفوعة بخوف شديد من الخطر الإيراني.
ولعل ما يجمع بين حماس وبعض الأنظمة العربية في زحفها نحو دمشق هو يقينها بأن اتقاء الخطر الإيراني يجب أن يكون عبر بوابة دمشق، أمّا حماس فإن العودة إلى الأسد من طرفها ربما تبدو واجباً شرعياً لعدم إزعاج الولي الفقيه في طهران.
لا تعدم حماس مبرراً لعودتها إلى الحليف الأسدي بالقول إن نظام الأسد لم يطبع مع إسرائيل حتى الآن، ومن الضروري الالتفاف حول حلف الممانعة الذي - وإن لم يعد مقنعا لأحد- ولكنه مقنع لحركة حماس التي لم تعد ترى فلسطين إلا في إمارة غزة فقط، بل ربما تسعى أيضاً نحو تحويلها إلى منطقة نفوذ إيراني جديد.
في ظل هذه المعطيات، لا يمكن ان نتجاهل مسألتين هامتين تتمثل الأولى في عدم قابلية حماس (بحكم بنيتها وتفكيرها الشموليين) للانخراط في أي مشروع وطني فلسطيني جامع، ذلك ان هذا التوجه يتنافى مع فكرة الوطنية الفلسطينية، ويظل مشدودا الى مفهوم الجهاد الأممي، وهذا ما يجعلها ترى في امارة غزة منطلقا جهادياً وليست نواة وطنية فلسطينية.
وتتمثل المسألة الثانية في المساعي الروسية الهادفة الى توظيف القوى الفلسطينية الإسلامية الراديكالية واستثمارها سياسياً إزاء علاقتها المتوترة مع إسرائيل، على خلفية غزو بوتين لأوكرانيا، وتمثل ذلك باستدعاء موسكو لبعض قيادات حماس ودفعهم باتجاه التصعيد مع إسرائيل كرسالة روسية تؤكد لإسرائيل بأن روسيا لا تزال قادرة على التأثير في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
بعد هيمنة التيار الموالي بقوة للولي الفقيه في طهران متمثلاً بيحيى السنوار وإسماعيل هنية ومحمود الزهار على قرار الحركة، بدا واضحاً تنكر حماس في سبيل مصالحها المباشرة، لتضحيات الشعب السوري ووقوفه الى جانبها ودعمها ومساندتها على مدى سنين طويلة، وانحيازها الى نظام الاجرام الاسدي الذي قتل واعتقل من الفلسطينيين اكثر مما فعلت إسرائيل، ودمر مخيم اليرموك الذي يعتبر عاصمة الفلسطينيين في الشتات، خدمة للكيان الصهيوني الذي يدعي عداوته، بالإضافة الى تدميرمخيم السد في درعا و حندارات في حلب وقتل وشرّد ابناءهم، متجاهلة جميع النوازع الأخلاقية والنضالية، معتبرةً قاسم سليماني، قاتل الأطفال في سوريا والعراق واليمن شهيد القدس، وهذا يكشف الى حد بعيد النزوع البراغماتي الشديد لدى الحركة، وهو نزوع مستمد بالأصل من بنية تفكير الإسلام السياسي بشكل عام.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها