السبت 2018/12/22

آخر تحديث: 13:01 (بيروت)

المشيخة الصوفية جنوبي دمشق: طبخة المصالحة على نار الهزيمة

السبت 2018/12/22
المشيخة الصوفية جنوبي دمشق: طبخة المصالحة على نار الهزيمة
(المدن)
increase حجم الخط decrease
مع انتهاء مهلة الشهور الستة بعد "المصالحة"، تعيش بلدات يلدا وببيلا وبيت سحم، جنوبي دمشق، مرحلةً انتقالية خطيرة، بعد سنوات من "طمأنة" النظام لها أثناء مرحلة "الهدنة المحلية"، وتنفيس الاحتقان الشعبي المتراكم نتيجة العمليات العسكرية لقوات النظام والحصار الطويل الذي فرض على المنطقة، منذ منتصف العام 2013.

وقد سعى النظام إلى طمأنة الناس لمصير أفضل بعد "المصالحة"، تحت عنوان "نفض غبار الحرب والبدء ببناء مستقبل أكثر أمناً وسلاماً"، مستخدماً ما توفر من أدوات، ومنها المشيخة المحلية الصوفية وتنظيم "الدولة الإسلامية". إلا أن بلدات جنوبي دمشق تشهد في الوقت الحالي ظرفاً أمنياً صعباً، نتيجة اعتقال العشرات من المنشقين أو المتخلّفين عن الخدمة العسكرية، بعد ذهابهم لـ"تسوية أوضاعهم". وتعرّض المقاتلون السابقون منهم في فصائل الجيش الحر للتعذيب في "فرع الدوريات" التابع لـ"الأمن العسكري" والمسؤول أمنياً عن المنطقة. هذا بالإضافة إلى صدور قوائم بآلاف المطلوبين للخدمة العسكرية.

ومرحلة اتفاقيات "التسوية النهائية" في أغلب مناطق "الهدن المحلّية"، لم تأتِ
إلا بعد إنضاج "طبخة المصالحة" على نار الهزيمة البطيئة، المعنونة بالتخلّي بل والتآمر على الثورة خارجياً، والصراعات وصدام المشاريع والعمالة داخليّاً. وبات متوقّعاً قبول الكثير من الشباب بعد سنوات "الطمأنة"، كما في دمشق وريفها، بشروط "التسوية"، بل والتطوّع في صفوف قوات النظام من جديد، كما في حي برزة الدمشقي. نموذج برزة لـ"المصالحة"، شكّل أيضاً نموذجاً لنهاية "المصالحة" على طريقة النظام، فأوجز القصة من بدايتها حتى نهايتها.

منذ بدء عهد الهدن المحلية، العام 2014، ركّز النظام على توثيق الصلة مع شخصيات محورية ذات تأثير في المناطق المُهادِنة، ليمرّر من خلالها رسائل طمأنة للناس عامّة وللشباب خاصّة. وكان الهدف الأهم هو "تفتير" همّة الشباب ودفعهم لترك السلاح والابتعاد عن العمل العسكري المعارض، والعودة تدريجياً إلى الحياة المدنية الطبيعية، من مدخل اقتصادي اجتماعي معلن وسياسي عسكري مبطّن.

ووجد النظام في قسم من المشيخة المحلّية، الصوفية في غالبها، ضالّته الأجدى، لاقترابها من الناس وقدرتها الكبيرة على التأثير، خاصّة مع استثمارها النصّ القرآني في إطار معركتها مع خصومها السلفيين، والسياسيين المعادين لتيار "المصالحة". وأحاطت تلك الثلّة نفسها بهالة من العلو والتنزّه عن النَيل والمعارضة، نتيجة استثمارها "حرمانية" انتقاد النص وسحبه باتجاه "حرمانية" انتقاد شخوص المشيخة نفسها.

وكنتيجة طبيعية للحلف المصلحي بين النظام ممثّلاً برؤساء الفروع الأمنية وبعض قادة المليشيات وضباط قواته من جهة، وشخوص المشيخة المحلّية من جهة أخرى، تحرّكت منابر المشيخة المتقاربة مع مشروع النظام للحل السياسي المعروف بـ"المصالحة الوطنية"، لتأكيد انحسار احتمالية الصدام العسكري مجدداً مع النظام، واعتماد خطاب ترويجي لعودة الحياة الطبيعية. ومقابل ذلك، أعطى النظام تلك الشخصيات مجالاً من التأثير، فاستجاب للعديد من ردود أفعالها على حوادث الاعتقال الجديدة، أو مطالباتها بإدخال مساعدات إغاثية لمناطق الحصار وتحسين الخدمات فيها، ما منحها ورقة قوة إضافية يمكن اللعب بها، ومصداقيّة راكمتها فوق رصيدها الاجتماعي السابق.

في جنوبي دمشق، انتهج بعض شيوخ بلدات يلدا وببيلا وبيت سحم، الممثّلين لبلداتهم أيضاً في "لجان المصالحة" سياسةً خطابيّة خلال أيام الجمع وغيرها، هاجموا فيها الفصائل العسكرية وسياستها، وعارضوا مشاريعها الأيديولوجية، ليضربوا بالمحصّلة فكرة وواقع الثورة نفسها، ومآلات الحراك في سوريا. ثم مرّروا رسائل مباشرة وغير مباشرة، دعوا فيها الشباب للاهتمام بمستقبلهم وشؤونهم الخاصّة اجتماعياً واقتصادياً، مركزين على أهمية إحياء الاقتصاد من خلال فتح محلات تجارية والعودة لمزاولة المهن الحرة من جديد، وتحريك المياه الراكدة بسبب الحرب والحصار. وذلك، على الرّغم من استمرار الحصار جزئياً بعد وقف إطلاق النار، وكنتيجة طبيعية لانخفاض القدرة الشرائية جرّاء البطالة وقلّة الموارد الماديّة لسكان المناطق المحاصرة.

هذا التكتيك، إضافة لعوامل أخرى، شكّل خطراً مباشراً على التشكيلات العسكرية التي كانت تعاني ضائقة ماديّة متصاعدة حالت دون تأمين موارد شهرية ثابتة ومقبولة تحقق اكتفاءاً مالياً للمقاتلين. ونتج عن ذلك، ترك عشرات المقاتلين لفصائلهم، متجهين للبحث عن خيارات بديلة: إما بعيداً عن جبهات القتال والرباط، في ظل مناخ من التأرجح العسكري الميّال لمصلحة النظام في عموم سوريا، وتراجع آمال إسقاط النظام عسكرياً. فتلقّفتهم شوارع وأسواق المنطقة بمحلاّتها البسيطة، لتبدأ بعدها دورة الحياة اليومية بهضمهم وإعادة تذويبهم في مساراتها التي كانت تبتعد يوماً بعد يوم عن مسار العسكر والعداء المطلق للنظام، أو اقتراباً نحو تنظيم "داعش" ومنظومة حكمه المحلّية، العسكرية والاقتصادية والتعليمية والخدميّة.

وهكذا استطاع النظام كمحصّلة للهدنة وإشاعة الحد الأدنى من الأمن والسلم إغراق شباب المنطقة المبتعدين عن الثورة، بالتفكير اليومي المرتبط بالمصلحة المباشرة. هذا مقابل ابتلاع "داعش" عبر سرديته العقائدية الأسطورية للشباب الأكثر راديكالية دينياً مع امتيازات اقتصادية ثابتة وكافية كرواتب شهرية لكل أفراد عائلة المقاتل في التنظيم، ومعونة إغاثية وهبات مرتبطة بمناسبات معينة.

وبذلك حقق النظام من خلال المشيخة المحلّية في مرحلة "الهدنة"، غاية استراتيجية عبر إشاعة جو من الأمن والطمأنينة بين الناس عموماً والشباب خصوصاً، لتحفيزهم على القبول بواقع الحال الذي يعني الرضوخ لفكرة "التسوية"، بما تعنيه من العدول عن القطيعة النهائية مع النظام، والعودة إلى كنفه، ثم الانخراط مجدداً في دورة حياة النظام بمؤسساته كلّها وتحديداً الأمنية والعسكرية. أي الاستسلام لفكرة الخدمة الإلزامية في قوات الأسد للمتخلّفين والاحتياط، وتوبة المنشقّين ثمّ التحاقهم مجدداً في قطعاتهم العسكرية السابقة.

وليس غربياً أن يعمل النظام بعد "المصالحة" وخلال المدى القريب، على الحدّ من تأثير المشيخة المحلّية بالمجتمع، بعد استثمارها خلال فترة الهدنة بالشكل الأمثل، وذلك عبر تقليص الامتيازات الممنوحة لها، وتقويض جهودها بل ومنعها من التدخّل لمعالجة مشكلات جديدة كحوادث الاعتقال بعد تسوية الوضع، كما في حادثة اعتقال العشرات من شباب يلدا قبل نحو شهرين ونصف في فرع الدوريات، ومحاولة لجنة "المصالحة" في يلدا التأثير في هذا الملف دون نتيجة إيجابية.

ومن هذه الزاوية يمكننا القول أن المشيخة المحلّية الصوفية التي لعبت دوراً مهماً في تدعيم موقف النظام ومخططاته، وشكّلت حائط الصدّ الأول في مواجهة فصائل الثورة وجمهورها، لن تنجو من استراتيجية النظام لمواجهة "بؤر التوتّر" السابقة التي شكّلت الخزان البشري للثورة.

في تجربة برزة خير مثال على ذلك، وأفضل دليل على استحالة قبول النظام لـ"المصالِحين"، حتى أولئك الذين نقلوا البندقية إلى كتف النظام وخاضوا معه أشرس المعارك. وبالتالي، من المتوقع بعد الانتهاء من تفكيك شريحة المنشقين والمتخلّفين المستهدفة حالياً، الانتقال لضرب الصف الأول من شخصيات المشيخة. فالنظام الذي أعاد سيناريو حماة 1982 بحذافيره في عموم سوريا بعد العام 2011، يحاول التعلّم من الدرس قبل أن يتكرّر مرة ثالثة. وذلك قد يحصل، إذا بقيت "بؤر التوتّر" متماسكة ومشيختها مؤثّرة، وهي التي انقلبت من خطاب "جهاد النصيريين" إلى "المصالحة الوطنية"، ويُخشى أن تعاود الكرّة إذا تبدّلت الموازين.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها