الأديب جان توما "مؤرخ" الميناء من وجوه أهلها

جنى الدهيبي
الأحد   2023/03/19
أعطى توما الميناء لقب "مدينة الموج والأفق" (المدن)

ليس جان توما مؤرخًا تقليديًا، ولا مثقفًا عاديًا. يصحّ القول به "لاعبٌ شعبيٌ ماهرٌ واستثنائي" في توثيق تاريخ مدينته من وجوه أهلها، فهو صاحب ستة كتب عن تاريخ "الميناء"، ولكن من خلال الوجوه، "لأنها تركت آثارها في تكوين شخصياتنا. ومن ملامحها، وثّقتْ عدسات عيوننا صورًا عن يوميات ناس قضوا حياتهم بها، ومرّوا عبرها، فتركوا إرثًا كبيرًا بالأحياء والساحات وعند الشاطئ".

كأنّك تسأله "كيف حالك"؟ فيردّ ساردًا بالتفاصيل تاريخ الميناء ببراعة وعفوية، بالسنوات والأمكنة، من أحداث طبعت نشأته، وعلاقات تنامت من دماثته، ومن بحوث تاريخيّة حفظها عن ظهر قلب؛ ومن كدّ وتعب على كلمته ولغته "فهي رأس مالي وشاغلة بالي".

في كتابه "وجوه بحرية"، يستند توما في مطالعته إلى ما يُقال إنّ "مدن الشواطئ هي واجهة البلدان"، عتبة لتفكيك انعكاسات هذه السمة على البنى الاجتماعيّة والثقافيّة والداخليّة، لأنّ هويّة المدينة البحريّة تتشكّل وتقوم "على حجرها وناسها وعلاقاتها وعاداتها وتقاليدها وعقائدها"، وتطبع وجوه أهلها.

على رصيف شارع "فرح أنطون"، نجلس مع جان توما في أحد مقاهي الميناء القديمة. وفي لقاء خاص مع "المدن"، يأخذنا برحلة سريعة، ينقّب فيها عن ماضي الميناء وسرّ أصالتها كمدينة كوزموبوليتانيّة بامتياز، ويروي ارتباطه المتجذّر بها، كما لو أنّ الميناء تحفة أثريّة نادرة في ذاكرته وحاضره.

نزلة الشاطىء الفضي ومدخل شارع مونو 1930



النشأة في "الخراب"
ولد توما في "الحي القديم" في الميناء، وكان عبارة عن حيّ صغير فقط، يبدأ من منطقة "الشاطئ الفضي" أي برج المغاربة القديم، وصولًا إلى جامع غازي أو البوابة القديمة. فمعظم أحياء الميناء حاليًا، كانت بساتين ليمون. يعود توما المولود سنة 1955، إلى طفولته، حين كان "الحي" القديم يحمل اسم "سوق الخراب". ويذكّر بما وثّقه المؤرخ الطرابلسيّ عمر تدمري، بأنّه في سنة 1289م، حين دخل سلطان المماليك قلاوون إلى الميناء، وطرد الفرنجة منها، دمّر المدينة كي لا يعودوا إليها، وبنى طرابلس النهريّة على ضفاف نهر أبو علي.

يحنّ توما في مخيلته إلى "الخراب"، حين اعتاد أهل الميناء مساء أن يخرجوا من بيوتهم إلى ساحات الحيّ لاحتساء القهوة والسهر، بلا شاشات كبيرة أو صغيرة، فـ"هندسوا فطريًا نسيجًا استثنائيًا من العلاقات الاجتماعيّة والحياتيّة في حيّز مشترك، كثير البساطة وشديد الصلابة".

يتباهى توما بالحيّ القديم أو "الخراب"، حين كان يستقبل مختلف العقائد السياسيّة، فحضن القوميين العرب الذين نجحوا بأعضاء لهم سنة 1963، بانتخابات مجلس بلدية الميناء، كما برزت في الحيّ شخصيات كثيرة من الحزب الشيوعيّ. يقول مبتسمًا: "كان الجو السياسيّ يلفت انتباهي في حيّنا القديم، حتى غير المتعلّمين الحزبيين، كانوا يتكلّمون لساعات في مواضيع الوعيّ السياسيّ والوطنيّ، وهذه ميزة تسجّل للميناء".

في وعيه الأول، وبعدما كان توما مع أقرانه يقتلون ضجر الوقت باللعب في الحارات، وكثيرًا ما كنا نشهد نشاطات انتخابية في طفولتنا وكنا نتحمس للانتخابات المحلّية كثيرًا. ويتذكر ما قيل يوم  اختراق  النائب الراحل عبد المجيد الرافعي الانتخابات النيابيّة، أنّه بدا تحوّلًا سياسيًا عرفته المدينة في مراحل نضالها سابقًا ولاحقًا".

من منزل عائلته القديم مقابل بلدية الميناء القديم، يتذكر مشاهد الاستقبالات الرسميّة والاحتفالات الوطنيّة، وكان يسكنه تسعة أفراد: جدّته وعمته ووالداه وخمسة أولاد، وكانوا ينامون بالبهو الكبير على الطريقة العربيّة القديمة،  ثم انتقلت العائلة إلى بيت قرميديّ أكبر منه عند مدخل الحيّ الإسلاميّ، (زقاق الطاحون وزقاق نصف برطاشة) الذي كان يعج ّبالناس، وجميع بيوته أرضيّة تبدأ بساحة صغيرة قبل الدخول إلى عتبتها.

يذكر في شهر رمضان، كانت والدته تتوقّف عن دقّ الكبة في الجرن، أو شوي اللحوم، وكلّ ما تخترق رائحته نهارًا أنوف جيرانهم الصائمين، وكانوا يستبدلونها بالأكلات الباردة، ليتشاركوا مع الجيران مائدة رمضان.

طريق الميناء 1955



تحولات "بور سعيد"
في تلك الحقبة، كان معظم أهل الميناء، حسب توما، يعملون بصيد السمك أو توريق الجدران، أو الكلس، الذي ازدهرت تجارته لحماية الحجر القديم وقناطر المباني من ملوحة البحر. وعندما بدأ شقّ شارع "بور سعيد" الرئيسيّ نحو طرابلس، منذ سنة 1954، وتبعها في الستينيات بدء إعمار معرض رشيد كرامي الدوليّ، كان توما يتسلّل مع رفاقه الأطفال إلى خط القطار عند بوابة الميناء، ويتسلقون التلال الصغيرة، ليقفوا مذهولين أمام رؤية الإنشاءات الضخمة لأوّل مرة في حياتهم.

وعندما توسّع شق الطرقات بين طرابلس والميناء ليشمل شوارع المئتين وعزمي وبور سعيد، صار أهل الميناء يتّجهون للعمل في طرابلس، وظهرت في مجتمعها إضافة إلى الفعلة والعمال والصيادين فئة الموظفين في المؤسسات، لأنّ الانتقال إلى "البلد" كما كانوا يلقبون طرابلس صار أسهل من عبور تعرجات البساتين.  

أصل "الأسكلة"
يحبّ توما الرجوع لأصل تسمية الميناء، مع ما تحمله من دلالات تاريخيّة وسياسيّة وثقافيّة ومجتمعيّة. فعندما أمر السلطان قلاوون بهدم الحيّ القديم وبناء طرابلس النهريّة سنة 1289، عرفت الميناء أسماء كثيرة. فالبعض كان يسميها ميناء طرابلس، أو ميناء طرابلس الشام، لكنّها رسميًا وبالسجلات كان اسمها "الأسكلة" تيمنًا بانتشار "السقالات" على شاطئها، حيث كانت تأتي إليها البواخر لتفريغ حمولاتها من الخشب والبصل والحمضيات، كما كانت الميناء مركزًا للسفر والبضائع وسكة الحديد والبريد والكرنتينا، وبقيت تشتهر باسم "الأسكلة"، حسب توثيق توما، حتى سنة 1979، بناء على قرار صادر من اللجنة القائمة بأعمال مجلس بلدية الميناء.

ومن طرائف ما أخبرنا به توما أنّه: "حين كانت تصل رسالة بريد إلى الميناء، تدوّن باسم صاحبها فقط، من دون العنوان أو رقم شارع، لأن الناس كانت تعرف بعضها البعض، وبالاسم فردًا فردًا، في الأحياء القديمة". لذا، "أقول عنها مدينة الوجوه".

مسيحيو الميناء
عاشت الميناء أحداثًا أمنية متقطعة وقليلة خلال حقبة الحرب اللبنانيّة، لكنها كانت حسب توما، أشبه بما يتلقى أصداء أو مخلفات الحرب التي عاشتها طرابلس. لا يبدو توما معنيًا بسرديات انحسار وجود جماعات طائفية في حيّز مكاني ما، وتحديدًا في المدن. هذا ما نستخلصه عند سؤاله عن تاريخ الوجود المسيحي- الأرثوذكسي في الميناء، الذي يتركز حاضرًا في أحيائها القديمة.

يعرف هذا المثقف والأكاديمي أن المدن تخضع لتحوّلات كبرى وتغيّرات تتجاوز محدوديّة الفرز الطائفيّ. يذكرنا سريعًا أن الميناء في الستينيات سكنتها جاليات أرمنية وآشورية وكلدانية ومن أهل كريت المسلمين، الذين لجأوا إليها عقب الحرب اليونانية-التركية، ناهيك عن جاليات من انطاكيا ومرسين واسكندرون، جاءوا إليها في سياق تجارة بحرية واسعة على متن السفن.

ويذكر عن وحدة أهلها فيقول: ""إنّ المقابر كانت في أرض ملاصقة: ساحة أرض ترب للمسيحيين، وساحة أرض ترب للمسلمين". وفي سنة 1875، جرى نقل المقابر إلى أرض يعقوب كرم عند مدخل الميناء"، ما يعني أنّ أهل الميناء "في الحياة يسكنون في حيّ واحد، وفي الموت يتجاورون في المقابر". من هنا يعتقد توما أن ما يجمع أهل الميناء، مسلمين ومسيحيين، استقطب أبناء المناطق المجاورة بعد الحرب الأهلية، وسكنوا بمنطقتها الغربيّة، فتنامت الحركة العمرانيّة، من شمال شارع "بور سعيد".

ثم يستطرد متحدثا عن ذروة الوجود الارثوذكسيّ في الميناء مع الحركة الاقتصاديّة البحريّة في القرن السابع عشر. وحسب الوثائق، يعود الوجود الأرثوذكسيّ إلى ما قبل سنة 1850، خصوصًا أن كنيسة مار جرجس بنيت في الميناء سنة 1735، وتوما الذي شغل نحو 15 عامًا عضوية بلدية الميناء، يقول إنّ أعضاءها المسيحيين، وهم سبعة أعضاء من أصل 21 عضوًا، ينجحون بأصوات المسلمين، دلالة على وحدتهم وتماسكهم. 



عمارة استثنائية
تاريخيًا، تشكّلت الحالة العمرانيّة في الميناء، وفق رواية توما، من الفنون التي مرّت عليها، أيّ الفنيقيّة والرومانيّة والمملوكيّة والعثمانيّة، كما إنّ الفن العمراني الإيطالي موجود في بنايتين فقط، بناية البريد(بناية بطش)، وبناية مشابهة قرب القاعة الرياضية، وهذا الفنّ برز مع  الحركة البحرية سنة 1936، حين درجت تجارة الرخام والبلاط، كما تظهر في أبنية الميناء علامات الفنّ العثمانيّ الذي يقوم على إسناد الشرفات بالخشب.

ويدلّنا توما أيضًا على الأعمدة الرصاصيّة من عهود الرومان، ويظهر بعضها في كنيسة مار جرجس، وهي واحدة من سبع كنائس لمختلف الطوائف بالمدينة: الأرثوذكس، الموارنة، الروم الكاثوليك والسريان الأرثوذكس.

هذا ويربط توما انتشار البيوت الأرضية في بعض أزقة الميناء، بتأثر عمارتها بالبيت العربيّ القديم، الذي يبدأ بالحديقة ثم البهو مع تفرّعات غرف المنزل. ومن النعم على المدينة القديمة في الميناء، وفق توما، شقّ الكورنيش البحريّ منذ سنة 1984، الذي أبعد الفوضى، على اختلافها، عنها، وخفّف من ازدحامها واكتظاظها. وهذا الكورنيش الممتد على ستة كيلومترات يجب صيانته وتطوير مساحاته السياحية على صعيد الخدمات الإنمائيّة.

كما تتميز الميناء بـ"خان التماثيلي"، وخان "الاسفنج". ويوضح توما أنّ الميناء راجت فيها سنة 1860 تجارة الاسفنج، وكان يأخذه التجار من الصيادين لشحنه إلى البلاد العربية والأوروبيّة، كما أن صيادي الاسفنج هم من بنوا كنيسة "مار الياس" المطلة على شاطئ الميناء.

ويسرّ توما أنه هو من أعطى الميناء لقب "مدينة الموج والأفق"، الذي يتصدر بوابتها عند الاوتستراد الرئيسي بين الشمال وبيروت. واعتمدته البلدية، بعدما طلب منه رئيسها الأسبق عبد القادر علم الدين تقديم مجموعة مقترحات لمنح المدينة لقبًا. ويقول: "إن الميناء هي من المدن القليلة في لبنان التي نرى منها الموج والأفق".

مسيرة "الدكتور"
يفتخر توما أنّه ابن المدرسة الرسميّة التي يحزن على واقعها اليوم. ولسنوات قليلة درس في مدرسة خاصة، ولكن بسبب ظروف عائلته الماديّة، انتقل إلى مدرسة الميناء الرسمية ثم ثانوية القبة، ولاحقًا الجامعة اللبنانية التي درس بها كامل مراحل الليسانس والماجستير وتخرج من معهدها للدكتوراه أستاذًا جامعيًا بقسم اللغة العربية.

يتذكر حين كان يذهب من الميناء إلى القبة، في المدرسة والجامعة، صعودًا على الأدراج المطلة على نهر أبو علي، رغم بعد المسافة. عمل توما 33 عامًا في مدرسة مار الياس في الميناء، ويقول إنّ لهذه المدرسة فضلاً على المجتمع المدنيّ في الميناء، لأنها جمعت مختلف شرائحه. ثم أكمل مرحلة الدكتوراه سنة 2001، فعمل أستاذًا بالجامعة اللبنانيّة 11 عامًا، إلى أن تقاعد، وهو اليوم رئيس قسم اللغة العربيّة في جامعة الجنان، طرابلس.

له دراسات عديدة، ومقالات في مختلف الصحف، وصدر له 18 كتابًا في الأدب والنقد وتاريخ الميناء، مع كتابين سيصدران قريبًا. ويختم بالقول عن مدينته: "لم يلتهمنا الباطون بعد في الحيّ القديم، وهذا ما لا أتمنى حصوله يومًا".