تلاشي الأمن والقضاء بالبقاع.. يطلق نزاعات الأهالي وعداوتهم للسوريين

لوسي بارسخيان
السبت   2022/07/30
"شريعة الغاب" تهيمن على الحياة اليومية بعد انحلال الدولة وسلطتها (الأرشيف، Getty)
يعيش البقاعيون انحلالًا تامًا على صعيد مؤسسات الدولة وهيبتها، ولم يعد كثيرون يلمسون دورها الراعي لشؤونهم اليومية، إلا بمبادرات فردية من قضاة وضباط وموظفين، لا يزالون يؤدون واجبهم بـ"اللحم الحي"، انطلاقاً من مسؤولية أخلاقية قبل الوظيفية. وهذا يترك أبناء المنطقة أمام خيار التأقلم مع ما يعرف بـ"شريعة الغاب"، حيث الغلبة للأقوى دائماً، لتنعدم معها روادع الصدامات وشتى أنواع الارتكابات المتكررة يومياً في المحافظة، صغيرة كانت أم كبيرة.

القلة والعداوة
سلسلة أحداث شهدتها منطقة البقاع خلال أسابيع، عززت الانطباع حول دفع اللبنانيين إلى انتزاع حقوقهم بيدهم، تارة من خلال وضعهم بمواجهة بعضهم البعض، وتارة أخرى من خلال تواجههم مع النازحين السوريين، الذين بات كثيرون من أهالي المنطقة يجاهرون بعدائهم لهم. عداوة تؤججها "القلة" وشح الموارد، ولا سيما الكهرباء والمياه والطحين والخبز والعمل.

وليس مشهد الصدام بين اللبنانيين والسوريين لتناتش رغيف الخبز أمام المخابز، سوى وجه واحد من أوجه التداعيات التي يخلفها تنافس اللبنانيين أنفسهم على كافة موارد الحياة الأساسية. تنافس تؤججه غريزة بقاء تستفحل عند البعض أحيانا، وصولا إلى الاعتداء على الممتلكات العامة وعلى حقوق الآخرين وممتلكاتهم الخاصة.

استباحة الأحراج
فقبل أيام اعتصم عدد من أهالي الصويري في البقاع الغربي احتجاجاً على توقيف بعض أهالي المنطقة بتهمة قطع الأشجار وجمعها حطباً لموسم الشتاء. الأهالي الذين كانوا يعترضون على طريقة سوق المتهمين المهينة، وعدم احترام حرمة المنازل في التوقيفات التي جرت وفقًا لما نقل عنهم، أسقطوا تفاصيل المعلومات التي تتحدث عن اجتياحهم الواسع النطاق لمناطق حرجية، وإقدام البعض على قطع الأشجار بـ"وحشية"، بحجة انعدام وسائلهم البديلة لتأمين الدفء لموسم الشتاء.

وهم تجاهلوا الاعتداء الذي تعرض له رئيس البلدية الذي حاول تفقد ما يجري برفقة مأمور للأحراج، فكان نصيبه المواجهة المباشرة مع أبناء بلدته.

الغاية قد تبرر الوسيلة هنا، إذ أنه من حق أهالي البقاع أن يقلقوا من البرد الذي لا يرحم أحداً في فصل الشتاء. وقد تخطى سعر صفيحة المازوت الذي يشكل وسيلة التدفئة الأساسية لأبناء البقاع شتاء، 600 ألف ليرة، رغم الانخفاض العالمي لسعر البرميل. ويصل الحد الأدنى لكمية استهلاك البقاعيين مادة المازوت شهرياً، إلى برميل ونصف برميل، أي 15 صفيحة بالحد الأدنى لكل شهر من فصل الشتاء.

غير أن الحق الذي يغلف مطلب الأهالي هنا توازيه اعتداءات على حقوق عامة وتعديات استدعت تحرك النيابة العامة والأجهزة الأمنية لاستدعاء عدد كبير من المتورطين، وبلغ عدد المستدعين أكثر من ستين شخصاً، كان يمكن توقيفهم جميعًا في ظروف اعتيادية يعيشها البلد. لكن حسب المصادر القضائية حتى التوقيفات باتت مستحيلة، في ظل إضراب عام للموظفين يكبل الأيادي في شتى المؤسسات، ولا يسمح باستكمال الإجراءات القانونية المطلوبة. ما يبدد الجهود القضائية والأمنية المبذولة، ويقلل من وقعها الرادع بالنسبة للبنانيين عمومًا وصولاً إلى تشجيع التطاول عليها من أخطر المطلوبين. 

المطلوبون والمياه
وفي حديث عن أخطر المطلوبين، كانت لافتة قبل أيام التهديدات المباشرة التي وجهها أحد كبار تجار المخدرات في بعلبك للجيش والأجهزة الأمنية، بنشره تسجيلات تحذرها من الاقتراب من أوكاره. وهذا تطاول غير مسبوق في تاريخ المواجهة بين الجيش والمرتكبين، بعد كل ما تعرض له من مواجهات مباشرة خلال مداهماته في بعلبك. وهذا يعزز القناعات حول تداعيات الانهيار المتمادي في سلطة الدولة وأجهزتها، لا بل انحلال هذه السلطة وتلاشيها.

وإذا كان المجتمع البقاعي بأغلبيته يتفق على إدانة مثل هذه التعديات، فإنه في المقابل يقف حائرًا أمام أحداث أخرى، تضع الجيران في مواجهة بعضهم البعض، تنافساً على الموارد الشحيحة التي يتشاركونها.

في زحلة تلوح في الأفق ملامح أزمة للاستفادة من مياه نهر البردوني في ري البساتين، حيث بات حل مشكلة تقاسم هذه المياه مطلبًا ملحًا قبل أن تتطور الأمور الى صدامات مباشرة بين المزارعين. علما أن نبع البردوني الذي يغذي المدينة وأراضيها، معرض للشح دائمًا بدءًا من منتصف موسم الصيف، رغم تزايد كمية المتساقطات خلال فصل الشتاء الماضي. لكن الفرق هذه السنة أن لا أحد مستعداً للجوء إلى مياه الآبار التي بات ضخها يقصم ظهر المزارع، وبالتالي الكل يريد حصته من الموارد الطبيعية التي تجاور أراضيه.

وحال مزارعي زحلة مع مياه الري شبيه بحال القرى التي تتقاسم مياه نبع شمسين في شرق قضاء زحلة، والتي تحولت إلى سبب لتوتر متكرر بين أهالي القرى التي تستفيد منها، رغم محاولات التهدئة المستمرة. وهذا ما يدفع بالسلطات مكرهة الى تكثيف جهودها بحثاً عن الحلول، خوفاً من تطور هذه التوترات إلى إشكالات ومواجهات، ليس أقلها ما حصل قبل أسابيع عند محاولة محاصرة أهالي قرى بلدة عنجر التي تنبع منها شمسين.

ويتفاقم الصراع بين البقاعيين أيضاً على الكهرباء. ولا سيما في البقاع الغربي حيث لا يزال لبنان ينعم ببعد نظر الأجيال السابقة، الذي سمح بتوليد الطاقة من المياه، عبر معمل عبد العال الكهرمائي. هذا فيما انعدام رؤية الطبقة السياسية أوصل لبنان الى عتمة شاملة، تعزز عناصر الصراع على إنتاج معمل عبد العال. وهو يغذي التفرقة بين أبناء القرى المتجاورة، على خلفية نقص العدالة في توزيع إنتاج الكهرباء بواسطة المياه المتجمعة في سد القرعون.

الخبز والسوريون
وفي ظل "القلة التي تولد النقار"، لا يعود مستبعدًا أن يحمّل البقاعيون النازحين السوريين مسؤولية الإمعان في حرمانهم حتى من رغيف الخبز، الشحيح أساسًا قي الأفران. يستفز الأهالي اللبنانيين مشهد أرتال السوريين الذين يتجمعون يوميًا على أبواب هذه الأفران ويسبقونهم إليها. وهذا ما بدأ يوتر أجواء العديد من القرى، التي لم تعد تخجل في استخدام عبارات التنمر علنًا، مع تأييد عارم من قبل معظم البيئات البقاعية. وتعزز هذه التفرقة بعض القرارات والتعاميم الرسمية الصادرة، كمثل تلك التي صدرت عن محافظ بعلبك بشير خضر قبل أيام.

على أبواب الأفران تتكرر منذ أيام المواجهات. بينما الأجهزة الأمنية غير قادرة على تحريك عناصرها، إلا بناء للحاجة القصوى، وربما بعد سقوط الأضرار، التي لا يضمن أحد أن تبقى مادية. وهذا ما يجعل مطلب ترحيل النازحين فورًا وتركهم لمصيرهم يتعاظم في المنطقة، لمجرد أن الرغيف يشكل قوتهم الذي لا يمكنهم التخلي عنه. ويتجاهل كثيرون أن حرمان النازحين من الخبز وطلب ترحيلهم يفقد البقاع جزءًا كبيرًا من اليد العاملة السورية التي تسهم في إنتاج الرغيف في الأفران.

لا تملك الأجهزة القضائية والأمنية ولا حتى البلدية، إمكانيات التحرك سوى بالحد الأدنى للحفاظ على بقايا النظام الذي بدأ يتضاءل يومياً، إلى حد يخلف قلقاً حول مستقبل المنطقة المهملة أساسًا، والتي كلما انهارت سلطة الدولة المركزية من حولها، ازدادت فيها مخاطر تلاشي هيبة مؤسساتها. وهذا يهدد أهلها بخطر المواجهات والصراعات، وكل ذلك لأجل بقاء لم يعد معظم اللبنانيين يعتبرونه غنيمة بالأساس.