شيعيٌّ ضريرٌ يتحوّل مسيحيًّا.. وعازفَ كمانٍ بمدرسة المكفوفين الإنجيلية

محمد أبي سمرا
الخميس   2022/06/30
كان فقراء القرى الجنوبية يتوجّهون إلى بيروت للعمل بمهن متواضعة (Getty)
عاشت الجماعات اللبنانية وأجيالها تحوّلات وتغيرات وانقطاعات عامة عاصفة، اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا، وعلى صعيد القيم الجمعية والفردية، في القرن العشرين. لكن رواية هذه التحولات والانقطاعات، تأريخها ورصد معانيها ودلالاتها، لم تحظ سوى بقليل من الدراسات والأبحاث والاستقصاءات الميدانية التفصيلية والموسعة.

ديانا عباني المقيمة في ألمانيا، والمهتمة بتقصّي الحياة الموسيقية وعالم الترفيه والمغنيات والمطربات في بيروت النصف الأول من القرن العشرين، كتبت (موقع "الجمهورية" الإلكتروني، 16 حزيران 2022) سيرة أشخاصٍ من أجيال ثلاثة في عائلتها، متوسعةً في سيرة جدّها لوالدها المولود سنة 1907. وقد يكون من بواعث توسّعها في سيرته أنه ضرير، وكان يهوى العزف على الكمان في فتوّته وشبابه، وشهدت حياته تحولات عاصفة. وتشير عباني إلى أن تدوين ذاكرة العائلات أو السير العائلية تستهويها، لأنها تساهم في مواجهة التاريخ القومي والجمعي العام، الذي يؤطر التواريخ الشخصية والسِّير الشخصية ويفرغها من مادتها الحية. لذا تقترح أن تصبح التواريخ العائلية مدارًا لسرد التاريخ، وفهم الذوات الفردية، تحوّلاتها ومصائرها، أثناء إعادة بنائها للكشف عن دلالات تلك التحوّلات والمصائر، انطلاقًا من التاريخ الحميم الذي يمنح الناس وحياتهم صوتًا، ويجعل التاريخ العام مأهولًا بهم، فلا يظل مجرد أسماء وحوادث عامة.

التحول إلى البروتستانتية
ولد علي عباني، جد ديانا، سنة 1907 في قرية "اليهودية" جنوب لبنان، التي غيّر أهلها اسمها إلى السلطانية في الستينات. لم يولد الجدّ ضريرًا، بل فقد بصره أثناء الحرب العالمية الأولى، عندما اجتاح مرض الرمد لبنان والمنطقة. والده خليل كان فلاّحًا من مشايخ القرية، بعدما درس على الشيخ أحمد بري في تبنين، فزوّجه الشيخ التبنيني ابنته، وأنجب خليل منها أبناءً خمسة، منهم علي الذي فقد بصره في السابعة من عمره، فتخلى عنه أهله، وأرسلوه مع سواه من أولاد قريتهم للتسوّل في بيروت، التي كان فقراء القرى الجنوبية آنذاك (العامليون بلغة ذاك الوقت) يتوجّهون إليها للعمل فيها ماسحي أحذية، عتّالين، بائعي كعك، وسوى ذلك من أعمال متقطعة متواضعة، إضافة إلى التسوّل.

بعد سنوات من تسوّل الولد الضرير في بيروت أثناء الحرب الأولى (1914- 1918)، وانقطاعه عن أهله وقريته الجنوبية، ساقته أقدار التشرّد ومصادفاته إلى مأوى جمعية مسيحية للمكفوفين، فأدخلته مدرسة إنجيلية داخلية خاصة بالمكفوفين في حي زقاق البلاط البيروتي، المحدث وموطن إقامة المرسلين الأجانب وإرسالياتهم التبشيرية والتعليمية، ومنها الكلية الإنجيلية التي صارت الجامعة الأميركية، بعد توسعها وانتقالها إلى رأس بيروت. وكانت مدرسة المكفوفين قد تأسست سنة 1868، لتعليم فاقدي البصر مهنًا تناسبهم، إلى جانب تعليمهم التاريخ والجغرافيا والدين والقراءة والكتابة بطريقة البرايل الخاصة بهذه الفئة من المعوّقين، أو ذوي الاحتياجات الخاصة في لغة معاصرة. ومن المهن التي كانت المدرسة تدرّب تلامذتها عليها، تقشيش الكراسي والسلال. وفي أوقات الترفيه والهوايات المدرسية كان يتوافر للتلامذة العزف على الكمنجا والبيانو وألعاب الدومينو والاستماع إلى الراديو.

أتقن الضرير علي عباني تقشيش الكراسي وامتهنها واتخذها عملًا له طوال حياته. واستهواه تعلّمه الدين المسيحي الإنجيلي، فطبع شخصيته، فأقدم على اعتناقه في التاسعة عشر من عمره. ولما علم أهله في قريتهم الجنوبية بذلك، جُنَّ جنونهم: كيف يمكن لابن الشيخ الشيعي خليل عباني، أن يصبح مسيحيًا بروتستانتيًا؟! لذا قرروا -بعد سنوات من تركهم ونسيانهم إياه متسوّلًا في بيروت، وانقطاعه عنهم- الضغط عليه لاستعادته إلى أصله ودينه، أي كي "يرتد عن ديانته الجديدة، ويرجع متواليًا"، تكتب حفيدته، وتذكر أيضًا أن أسرته راحت تتندر لاحقًا متسائلة: كيف يمكن لحياة أسرتها أن تكون في نشأتها وإقامتها في ضاحية بيروت الجنوبية، لو ظل جدّها على بروتستانتيته، ولم يعد إلى دين أهله؟!

سنّي في سجل النفوس
ومن غرائب أحوال الجد علي عباني الضرير، تسجيله سنيًّا في سجل النفوس وفي تذكرة هويته. فأثناء إحصاء سكان لبنان وتسجيلهم سنة 1932 إبان الانتداب الفرنسي، وصلت لجنة الإحصاء إلى بيت علي عباني في محلة المصيطبة البيروتية، وسألته عن دينه، فاكتفى تلقائيًا بالقول إنه مسلم. ما عنى آنذاك أنه سنّي وليس شيعيًا، فسجّلته اللجنة سنّيًا، من دون علمه بذلك. واستمر على هذه الحال، غير مكترث بسجله الطائفي، حتى انتخابات العام 1968 النيابية، عندما لم يجد ابنه، والد كاتبة سيرة جدّها، أسماء أبناء عائلته مدرجةً في لوائح الشطب في قريته السلطانية. وهذا يعني أن الجد، لم يكن يعنيه الأمر ولا الانتخابات النيابية المتعاقبة، لولا تنبّه جيل ابنه تنبهًا جديدًا ومحدثًا لسجل نفوسه وطائفته، معطوفًا على رغبته في المشاركة في الانتخابات. ولمّا بحث الإبن، سميح عباني، وراجع في الأمر، عزف عن اكتراثه بأن يكون مسجّلًا سنّيًا بيروتيا، وليس شيعيًا جنوبيًا في السلطانية، لأنه كان آنذاك "يساريًا لا يأبه بالطوائف والطائفية".

لكن الشاب اليساري اللاطائفي، أُسقط في يده عندما أراد الاقتران بشابة شيعية من قريته، ورفض والداها تزويجه ابنتهما، لما علما أن الشاب طالب يدها، سنّي في سجل النفوس وتذكرة هويته، فطلب منه والدا عروسه تغيير مذهبه. الشيخ الشيعي الموظف في المحكمة الجعفرية في بيروت، رفض تصحيح ذاك الخطأ الطائفي، لأن طالبه كان موظفًا جديدًا في قطاع التعليم الثانوي الرسمي، وشك الشيخ الموظف بأن الموظف المدرّس يريد من تغيير مذهبه من سنّي إلى شيعي، حرمان شيعيّ من الوظيفة الرسمية تلك. ولما أصر المدرّس على طلبه، معتبرًا أنه شيعي أبًا عن جدّ، اقترح عليه شيخ المحكمة إحضار والده إليها. لكن والده كان قد توفّى، فأحضر والدته وعمه، فشهدا على شيعيتهما وشيعية التي استعادها العريس، واقترن بالشابة التي اختارها زوجةً له من قريته السلطانية. لكن سجل نفوس الزوجين وأبنائهما ظل في دوائر نفوس بيروت.
(يتبع)