بيئة الثنائي الشيعي تفقد أوهامها.. وعلمانيون يائسون

محمد أبي سمرا
السبت   2021/08/28
النكبة العامة قلبت حياة اللبنانيين انقلابًا كبيرًا عاصفًا (علي علوش)
روى هذه الشهادة شاب من مدينة صور، وولد فيها سنة 1999، ونشأ وعاش فتوته وشبابه الأول وعرف مجتمعها المحلي وخبره. وهي حلقة أخيرة سبقتها ثلاث نشرتهما "المدن" تباعًا 11 و18 و23 تموز الماضي.

نواد علمانية.. سياسية
عدتُ إلى مدينتي صور في أيار 2021، بعد غيبتي الجسمانية عنها وعن لبنان سنوات ثلاث، الأولى في الجامعة الأميركية في بيروت، والاثنتين استكملت فيهما دراستي في بريطانيا. لكنني ذهنيًا وعاطفيًا وعمليًا كنت ناشطًا في انتفاضة 17 تشرين ومجموعاتها منذ بدئها، في صور وبيروت، عبر وسائل التواصل الاجتماعي الفوري. وهذه كانت حال مجموعة من الطلاب اللبنانيين في جامعتي البريطانية. وكنت قد شاركت من بريطانيا في إدارة الانتخابات الطلابية في الجامعة الأميركية للعام الدراسي 2020 – 2021، عبر "شبكة مدى" الطلابية التي توسعت وشملت جامعات لبنانية كثيرة، إلى جانب تأسيس نوادي علمانية فيها، بعد انتفاضة تشرين 2019.

وفي صور بعد عودتي إليها أطلقت فكرة جديدة ورحنا نناقشها في "مدى": تأسيس نادٍ علماني في صور لا يقتصر أعضاؤه ونشاطه على الطلاب في المدينة، بل يضم شبانًا وشاباتٍ من فئات عمرية بين 16 و35 سنة، ويجمع طلابًا وخريجين وعاملين وعاطلين عن العمل، بلا تمييز ولا تفريق، سوى عدم انخراط المنتسبين إلى النادي في أحزاب سياسية. ولـ"شبكة مدى" ولـ"النوادي العلمانية" الجامعية، كتبتُ رسالة ضمنتها الاقتراح، فبدأتْ مناقشته، على أن يكون هدف النادي الصوري الجديد بلورة نشاط وأفق سياسيين في المدينة ومدن ومناطق أخرى. وهذا ما بادر إليه ناشطون في صيدا وعاليه.

نشاط حضوري.. وإلحاد
وبدأ نشاطنا في صور بمجموعة من أشخاص أربعة عبر تطبيق واتس آب. ولما أطلقنا المشروع عبر وسائل التواصل، سرعان ما استجاب نحو 25 شابًا وصبية من صور ومنطقتها المجاورة. وبعد شهرين من المناقشات والاستطلاعات بواسطة "الزوم"، بدأنا اجتماعاتنا ونشاطنا حضوريًا في مكتب "نبض الجنوب" بصور، وهي واحدة من المجموعات الناشطة من كبار السن في المدينة منذ بدايات انتفاضة تشرين، وأتاحت للناشطين الصوريين المستقلين استعمال مكتبها في نشاطاتهم. وأتاحت لنا اللقاءات والاجتماعات الحضورية التعارف الحي والمباشر، والمبادرة إلى علاقات شخصية بدل الافتراضية. فصارت لقاءاتنا في المكتب تمتد إلى خارجه، إلى المقاهي وبعض غذاءاتٍ في المطاعم على شاطئ صور. وفي غمرة نشاطنا هذا تعرضت أربع صبايا من المنتسبات إلى النادي لضغط من أهلهن، فجمّدن  نشاطهن بعدما أُشيع في صور أن العلمانية تعني الإلحاد.

وفي بدايات صيف 2021 بلغ عدد المنتسبين إلى نادي صور العلماني حوالى 60 شخصاً، غالبيتهم الساحقة  جنوبيون شيعة، وبينهم شخصان غير شيعيين، وصبية أمها شيعية ووالدها مسيحي، إضافة إلى شاب سنّي من صور. لكن الفئات والبيئات الاجتماعية للمنتسبين متنوعة، ويتحدرون من طبقات متباينة: بينهم ميسورون وفقراء وعاطلون عن العمل، وعمال شبان وفتيان تركوا التعليم لضيق ذات اليد.

نقمة أهلية
والملاحظ في صور وبلداتها المجاورة أن انتفاضة 17 تشرين سمحت لأفراد ومجموعات صغيرة من الفئات العمرية الشابة بالقدرة على التفكير المستقل والابتعاد عن ولاءات أهلهم وعائلاتهم للحزبين الشيعيين المهيمنين. وإذا كان انفجار المرفأ قد ترك أثرًا ملحوظًا على الفئات الشابة والطلاب الجامعيين في بيروت، وفاقم غضبهم على الطبقة السياسية الحاكمة، فإنني لاحظت أن الانهيار المالي والاقتصادي هو الذي أطلق في صور ومنطقتها نقمة لا يستهان بها على الحزبين الشيعيين المهيمنين. ودليلي على ذلك أن 30 إلى 40 في المئة من المنتسبين إلى "شبكة مدى" الطلابية البالغ عددهم بعد 17 تشرين حوالى 1200 ناشط وناشطة في لبنان، هم من الشيعة الجنوبيين في غالبيتهم. و"النادي العلماني" الناشئ حديثًا في صيدا ويضم 30 عضوًا ناشطًا، بينهم عدد من الطلاب الشيعة.

وفي مدينة صور وجوارها، حيث يتفشى الضيق والفقر، واتسعا وتعمّقا في حضم الأزمة، تتزايد النقمة بين الأهالي. وفي حياتي اليومية في المدينة، غالبًا ما أحاول استدراج من أصادفهم وأتعامل معهم إلى التعبير عن تلك النقمة. ومن ذلك أنني سألت مرة سائق سيارة أجرة في صور: ماذا تفعل إذا بلغ ثمن صفيحة البنزين مئتي الف ليرة؟ قال إن الدولة هي التي تظلم الشعب. ولما قلت له إن أحزابنا التي تتحكم بنا وتدير الدولة، هي الظالمة، أجابني: خلينا ساكتين، ما فينا نحكي. وهنا رحت أقول له: إلى متى نظل ساكتين ولماذا؟ فقال علينا ألا ننتخبهم نوابًا، فأضفت بدوري: يجب أن نطردهم من بيوتنا عندما يأتون إلينا قبيل الانتخابات زائرين متزلفين طالبين نيل أصواتنا، فتابع الرجل قائلًا: ونطردهم أيضًا عندما يأتي نوابهم إلى مجالس العزاء معزين بأقاربنا أو بشبان قتلوا في سوريا. لقد صار مثل هذا الكلام مقبولًا بعد الانهيار الاقتصادي ومعاناة الناس منه في الجنوب.

الإعاشة والبروباغندا
وعلى الرغم من توزيع "حزب الله" و"حركة أمل" إعاشاتٍ ومغلفات تحوي مبالغ مالية على محازبيهما في بدايات الانهيار الاقتصادي، فإن المنظمتين هاتين اعتمدتا –"حزب الله" أكثر من "أمل" بما لا يقاس- على البروباغندا الدعائية ضد الأحزاب الأخرى وحاكم مصرف لبنان والمصارف، للتنصل من مسؤوليتهما. وهذا أكثر بكثير من اعتمادهما على ما يوزعانه من مساعدات، للحفاظ على ولاءات الناس لهما. فبطاقة "السجاد" التي وزعها "حزب الله" على مواليه ومحازبيه، كي تتيح لهم حسومات من أثمان السلع الغذائية في شبكة السوبرماركت التابعة للحزب إياه، لم يستمر العمل بها أكثر من شهرين، فألغيتْ وأُقفلت السوبرماركات أبوابها، وتُرك المستفيدون منها لمصيرهم.

وحملة الإعالة هذه التي زامنت بدايات الأزمة، وكذلك غايتها الموقتة، أي تدارك غضب الناس وإشعارهم أن لا غنى لهم عن حزب الطائفة الذي يصادر حياتهم وحريتهم، تشبهان الحملة الدعائية المشهدية التي قام بها "حزب الله" في بدايات أزمة كورونا. فآنذاك حشد الحزب إياه مئات سيارات الإسعاف وطواقمها الإغاثية، ونصب خيمًا كثيرة تشبه المساكن الجاهزة لاستقبال مرضى كورونا وحجرهم عندما تفاقم انتشار الوباء في لبنان والهلع منه. ولكن ذلك كله لم تكن فاعليته وغايته تتجاوزان الصوّر السينمائية الخلّبية وبثها على وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي. وسرعان ما بدا أن هذه المشهديات الإعلانية الدعائية لا تبيع الناس سوى الصور والأوهام نفسها التي تكرِّسها في مخيلاتهم أشرطة الفيديو الحربية الانتصارية التي يبثها تلفزيون "المنار" عن بطولات المقاومة، لتقيم ذاك الفصام الكبير بينهم وبين واقع حياتهم الفعلية المريرة، وترميهم فريسة للأوهام والصور البطولية. وهذه صارت اليوم أفلامًا دعائية من الماضي الذي يحتاج إلى خطابةٍ شبه يومية للتذكير بها وتجديد فاعليتها المنطفئة في خضم هجوم الواقع القاسي على حيوات الناس وحرمانهم من حاجاتهم الأساسية وقوتهم اليومي... وهيهات أن تختلف الخطابة المتوترة عن باخرة النفط الإيرانية الغامضة عن تلك الصور والأفلام.

ومن تجربتي الراهنة واحتكاكي اليومي بدوائر متنوعة في المجتمع الصوري أستطيع القول إن من 10 إلى 20 في المئة من الأهلين طرأ تغيير كبير على ولائهم للحزبين الشيعيين المسيطرين. فياما لمست في أثناء اتصالي بهذه الدوائر، أن كثيرين صاروا يتقبلون الكلام الذي ينتقد بقوة وعلنًا هذين الحزبين. ولا سيما خطابة حسن نصرالله المتكررة التي تضخم الوعود الصغيرة التي لا تتحقق، وترفعها إلى ذرى الأفعال الخارقة، فيما هي تبسط على الحياة البائسة ستارًا خانقًا يوهم الناس بأن ذلها اليومي من أعمال التضحية البطولية.

عمل سياسي أهلي
وبين ناشطي النادي العلماني الصوري عدد من أبناء أعضاء بلدية صور الموالين لـ"لحركة أمل". وربما عليّ في هذا السياق التوسع قليلًا في إيضاح نشاط النادي الذي يخرج على العمل الطلابي ويتجاوزه إلى العمل السياسي العام والمباشر في المجتمع الأهلي. أي العمل على اختراق الحصون العائلية واستقطاب الفاعلين فيها من مخاتير ومفاتيح انتخابية وأعضاء بلديات، كي لا يقتصر على العمل الطلابي والشبابي. وهنا لا بد من ملاحظة أن الأهالي المنتفضين في المناطق الشيعية الجنوبية أثناء 17 تشرين، كانوا بوضوح أكثر جذرية وعرضة للضغط والعنف من سواهم في المناطق اللبنانية الأخرى. ونتيجة خوفهما من ما حدث في صور والنبطية وكفررمان، عمد الحزبان الشيعيان إلى ممارسة التهديد والوعيد بقطع أرزاق وأقدام المتظاهرين الذين حاولوا تأليب أهلهم وعائلاتهم عليهم.

ويتركز نشاط النادي العلماني الصوري على أن يمتلك أعضاؤه وعيًا وأدوات للنقاش في العلانية العامة بين الناس وفي أوساطهم البلدية والعائلية، لا أن يقتصر العمل والمناقشة على دوائر المنتسبين الضيقة. وغاية العمل والنشاط ليس زيادة عدد المنتسبين إلى النادي وحسب، بل إحياء رأي عام أهلي وعائلي معارض للحزبين المسيطرين. وقد يكون هذا يتطلب إنشاء تنظيم سياسي على استعداد للمواجهة وعدم الرضوخ للتهديد والتخويف.

ومنذ بدايات أزمة المحروقات الخانقة انخرطت مجموعات من "أمل" و"حزب الله" في حماية محطات البنزين، لقاء حصولهم على أتاوات من أصحابها، إضافة إلى كميات المحروقات التي يحصلون عليها من المصدر مباشرة، ويقومون ببيعها في السوق السوداء بأسعار عالية. وعندما يحدث احتجاج ما من الأهالي، غالبًا ما يختفون لتظهر مخابرات الجيش وعناصر من الجيش في مواجهة المحتجين. فهم يفضلون ويدعمون احتجاجات ضد رياض سلامة والمصارف وفؤاد السنيورة  وما يسمونه "حكم الدولار"، فيما يتعرض الناس للإذلال اليومي على محطات الوقود التي يحمونها ويحصلون منها على ما يريدون. وهم مع بقايا الشيوعيين واليساريين يتعاونون في فرض خطاب للاحتجاجات لا يأتي على ذكر "حركة أمل" و"حزب الله". أما من يتعرض بالنقد لممارسات هذين الحزبين، فليس سوى عميل للقوات اللبنانية وأميركا.

إنهاك ويأس
لكن اليوم بعد انقضاء أقل من سنتين على 17 تشرين، والنكبة العامة التي أصابت لبنان وأهله في تفاصيل حاجاتهم اليومية، وقلبت حياتهم انقلابًا كبيرًا عاصفًا ومزقت حتى التواصل بينهم ورمتهم في مرارات معتمة، صار ما حدث في 17 تشرين صورًا من أزمنة غابرة.

لقد غرق الناس جيمعًا اليوم في متاهة تدبير أدنى مقومات عيشهم اليومي، مرهقين وغير قادرين على التقاط أنفاسهم. شجارات وتضارب واطلاق نار وسقوط جرحى وأحيانًا قتلى على محطات الوقود. والإنهاك والانكفاء يتفشيان ويسيطران على حياة الجميع الخاوية إلا من الضيق والقلة. وهيهات، بل من المستحيل أن تلوح في هذا الأفق الأسود حركة اعتراضية. لكن هذا لا يعني أن الحزبين الشيعيين في منأى عن هذا السواد الذي يلوح في الأفق القريب، بل يملأ العيون المتحجرة التي لا تبصر سوى اليأس.