العفو العام عن السجناء: بازار انتخابي طائفي يجدد بؤسهم

جنى الدهيبي
السبت   2021/12/04
المشكلة الرئيسية ليست بإقرار قانون العفو العام، بل بعدم الإسراع بالمحاكمات (الأرشيف)
عهد اللبنانيون تاريخيًا، كلما اقتراب موسم الانتخابات النيابية، إثارة ملفات ورفع مطالب للسلطات، لكنها سرعان ما تتبدد وتتحول سلعة استثمارية في الانتخابات، تستغلها القوى السياسية عُدةً لا بد منها لمخاطبة بيئاتها وطوائفها وجماهيرها.  

كان هذا في الماضي. فما بالنا في انتخابات 2022 (إن حصلت)، التي تأتي وسط انهيارات كبرى تصبح فيها الوعود الكلامية أسهل الممكن لحشد الأصوات؟  

عفو 2018 
قبيل انتخابات 2018، تقدّم على مدار شهور طويلة ملف اقتراح قانون "العفو العام"، وشهد بازارًا سياسيًا غير مسبوق، وعلّق السجناء وغير المحكومين وعوائلهم آمالًا كبيرة على الوعود التي أُغدقت عليهم. وللحظة أوهموا بأن أبناءهم يصبحون طلقاء بعد انتخاب تلك القوى السياسية. ثم تبين لاحقًا أنها وعود مجانية فارغة من أي مضمون، ولا تحظى بأدنى توافق سياسي عليها.

ولعل أكثر من استغلتهم القوى السياسية، هم أهالي من يُعرفون بـ "الموقوفين الإسلاميين". وبعضهم لم تجر محاكمتهم منذ احتجازهم قبل سنوات طويلة. وآخرون منهم حكم بجرائم قتل عناصر الجيش والقتال في سوريا إلى جانب تنظيمات مسلحة. وهناك كثر سجنوا بتهم التواصل والتخابر أو تداول فيديوهات، وجدت فيها المحكمة العسكرية إثارة للنعرات الطائفية و"التطرف".

طائفية العفو
غير أن كل ما شهده لبنان من اقتراح مشاريع حول قانون "العفو العام" في البرلمان، باء بالفشل بسبب عدم التصويت بالأكثرية عليها، وهي بدت موجهة إلى فئات ثلاث: الإسلاميون (بالنسبة للكتلة البرلمانية السنية، وعلى رأسها تيار المستقبل). المحكومون بتهم الاتجار بالمخدرات (بالنسبة للثنائي الشيعي، حزب الله وحركة أمل). والمحكومون بتهم العمالة وعوائلهم (بالنسبة للقوى المسيحية).  


قوانين مجمدة؟ 
وبعيدا عن جدوى مشروع "العفو العام" ومخاطر إقراره، يبدو أن الجميع بلغ مرحلة اليأس. حتى أن أهالي الموقوفين والسجناء، ومن مختلف الطوائف، أدركوا أن كل ما يسمعونه مجرد وعود واهية واستثمار انتخابي لن يفضي إلى نتيجة.  

وفي حديث رئيس لجنة حقوق الإنسان البرلمانية، النائب ميشال موسى، إلى"المدن"، يشير إلى وجود نحو 5 صيغ لمشاريع "العفو العام" في البرلمان، وجميعها لم يجرِ التوافق عليها، لأسباب سياسية واضحة.  

لكن في المقابل، ثمة قوانين أقرها البرلمان حول تخفيض السنوات السجنية والمراجعة الدورية لملفات السجناء، وحول العقوبة البديلة عن السجن. وجميعها لم تلتزم بها المراجع القضائية المدنية والعسكرية التي تصدر أحكام السجن، حسب موسى.  

مأساة السجون 
هذا الأمر، أصبح الحديث عنه ملحًا أكثر من أي وقت، نظرًا للتدهور الكبير في واقع السجون، بنيويًا وصحيًا وغذائيًا ولجهة الاكتظاظ الكبير في مساحات ضيقة غير مأهلة بأدنى مقومات الحفاظ على كرامة السجناء وحقوقهم الإنسانية.  

وإذا كانت السلطات الأمنية والقضائية التشريعية والتنفيذية تتحمل مجتمعة مأساة واقع السجون اللبنانية، سواء في رومية أو مراكز التوقيف والسجون العسكرية، يقرّ موسى أن "واقعها غير صحي إطلاقًا"، متحدثًا عن حلول تداولها كثيرون بلا نتيجة: كبناء سجون مركزية في المحافظات، وتعزيز تأهيل السجناء. وربط موسى عدم إنجازها بتعقيدات كثيرة وأسباب مادية، دفعت لتخفيض موازنات السجون، لتعتمد بنسبة كبيرة على تقديمات الجمعيات الأهلية والمنظمات الدولية. لأن الدولة عاجزة عن توفير مجرد وجبات طعام كافية للسجناء والرعاية الصحية.  

وقال النائب موسى "إن الانهيار الكبير في لبنان أثر تلقائيًا على السجناء كأثر الفئات حرمانًا في المجتمع. وازداد وضعهم سوءًا بعد جائحة كورونا، مذكرًا أن نحو 45 في المئة من المساجين غير محكومين. وهنا تكمن الأزمة". ودعا موسى إلى تسريع الإخلاءات وعدم استسهال الأجهزة الأمنية التوقيف قبل التأكد من جداوه.  

تحرك الإسلاميين ومطالبهم
ويشير الشيخ نبيل رحيم إلى أن "العفو العام" لم يعد مطلبًا جديًا، بعد إدراك معظم الأهالي والسجناء استحالة إنجازه. لكن في نهاية تشرين الثاني، زار وفد من أهالي الموقوفين الإسلاميين وبعض الهيئات الإسلامية، رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وحملوا بيدهم مقترح مشروع يرتكز على نقاط عدة، أهمها:  

طلب تحديد حكم الإعدام بـ 25 عاما، والمؤبد بـ 20 سنة، وتحديد السنة السجنية بستة أشهر بدل 9 أشهر، لمرة واحدة فقط، للتخفيف من الاكتظاظ، ومعالجة "وثائق الاتصال" بحق الآلاف، وهي تصدر عن الجيش اللبناني من دون إشارة قضائية، وإزالتها عن كل شخص أنهى حكمه وخرج من السجن. وإعادة النظر ومراقبة الاحكام الصادرة عن المحكمة العسكرية. والنظر بالأوضاع الإنسانية داخل السجون، وتحسين جودة وكمية الطعام نتيجة شكاوى السجناء. وتسوية موضوع الطبابة والأدوية التي أصبح شراؤها على عاتق السجين. وهذا إضافة إلى نقل الموقوفين في سجون الشرطة العسكرية إلى سجون تحظى بظروف أفضل. 

وعود كلامية وحلول
ورغم تلقي الوفد من ميقاتي وعدًا بتحقيق مطالبهم، وأن كتلته البرلمانية ستتقدم بمشروع قانون حول أحكام الإعدام والمؤبد، يعتبر رحيم أنها ما زالت في الإطار الكلامي من دون إجراءات ملموسة وسريعة لمعالجة جزء من معاناة السجناء.   

ويوم أمس الجمعة 3 كانون الأول، تفقد وزير الداخلية بسام مولوي، السجن المركزي في رومية، واطلع على أوضاع السجناء، بحضور المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان. 

وقال خلال جولته، إن مشاكل الضباط وآمري المباني لا تقل عن مشاكل السجناء. وربط ظروف السجناء بظروف البلد وتدهور الليرة الذي أثر على التقديمات للسجناء وللقوى الأمنية والعسكرية.  

ووعد مولوي بالسعي لإيجاد حلول لمسألة الاكتظاظ في رومية وكل السجون، سواء عبر محاولة إطلاق قانون العفو العام إذا توافرت الظروف السياسية، وخفض السنة السجنية ولو لمرة واحدة، وخفض العقوبات باستثناء بعض الجرائم التي لا يشملها التخفيض. 

وتعليقًا على ذلك، يعتبر المحامي فاروق مغربي، أن المشكلة الرئيسية ليست بإقرار قانون العفو العام، بل بعدم الإسراع بالمحاكمات، وعدم تفعيل قانون العقوبة البديلة التي يمكن عبرها تخفيف اكتظاظ بالسجون. وقال لـ "المدن" إن بعض القوانين السجنية تحتاج لتعديل وورشة تشريعية كبيرة، نظرًا لتقادمها وغياب معايير العدالة عنها.  

وفي ظل غياب التأهيل داخل السجون، يتساءل فاروق عن مصير السجناء بعد تخفيض العقوبات عنهم، وهم يخرجون إلى مجتمع يعيش انهيارًا كليًا. والحل الأمثل برأيه، هو تسريع الملفات، خصوصا أن بعض الموقوين لم يحاكموا منذ 10 سنوات، وأن يكون السجن هو آخر خيار بعد البحث بالعقوبات البديلة. واعتبر أن التوقيف أصبح الخيار الأسهل لبعض القضاة المدنيين والعسكريين، بدل بذل مجهود للنظر بكل ملف كحالة خاصة. وهذا ما ضاعف الوضع المزري خلف القضبان، حيث تكتظ الآلاف بين مظلومين ومرتكبين غير مظلومين.