"وداع لبنان" بين المآتم والكرنفالات

محمد أبي سمرا
السبت   2020/01/25
حاولت حركة 17 تشرين الاحتفال كرنفالياً بخروج جموع من اللبنانيين من العصبيات الأهلية (علي علّوش)

نشأت الدولة اللبنانية الحديثة أو المعاصرة، كغيرها من الدول العربية المشرقية، على شيء من البرود والقسر في العلاقات بين جماعاتها.

والجماعات الأهلية في لبنان، لم تطوِ حيرتها وقلقها في "دولة لبنان الكبير" الوليدة (1920)، بل ظل رضاها البارد والهش بالجمع والتأليف أو التوليف بينها حذِرًا وتشوبه مخاوف وريبة تتبادلها الجماعات بدرجات متفاوتة، كلما دعتها إلى ذلك عوامل وظروف طارئة، خارجية وداخلية متشابكة على الدوام.

ولعل الإقرار العلني بهذه المخاوف والريبة، مداراتها والتحايل عليها، وتكريسها مداورةً وعلى نحوٍ موارب في أعراف أو ميثاق الدولة الوليدة ودستورها، وفي الحياة السياسية والاجتماعية اللبنانية، هي ميزة لبنان عن محيطه من الدول العربية التي سرعان ما انقادت، بعد الاستعمار والانتداب والاستقلال، إلى أنظمة حكم تسلطية أو ديكتاتورية عسكرية طاغية، ولعبت أدوارًا فاعلة في انسياق الجماعات اللبنانية إلى الاحتراب الأهلي - الإقليمي الملبنن (1975 - 1990).

عدوى اللّبننة
ولربما كانت العدوى الاجتماعية والثقافية والسياسية التي أتاحها تخالط فئات وشرائح من الجماعات اللبنانية غير متجانسة الهويات، في أطر الاجتماع اللبناني ومؤسسات الدولة وإداراتها، وكذلك المكتسبات والعوائد المادية والمعنوية التي وفّرتها تلك الأطر والمؤسسات لفئات من المسلمين، هي ما أضعفت تململ الجماعات وتنابذها، وشيدت الجسر الذي حمل شطرًا لا يستهان به من المسلمين على العبور إلى لبنان المجتمع والدولة "الحديثين"، وعلى التخلي المتفاوت عن ضيقهم وبرمهم بهما، ولو على نحو موقت وفي ظروف إقليمية وداخلية ملائمة.

والحق أن الجماعات اللبنانية كلها، ظلت دائمًا وبدرجات متفاوتة تتبادل القلق والريبة والمخاوف الكامنة الخافتة حينًا، العلنية والمتوترة أحيانًا:

  • المسيحيون، الموارنة خصوصًا، قلقون وخائفون على لبنان ودولته وهويتهم من المسلمين، وتساورهم الشكوك والريبة بلبنانية المسلمين.
  • المسلمون قلقون وخائفون على هويتهم، ويضيفون إلى قلقهم وخوفهم الريبةَ من لبنان ودولته، ومن المسيحيين ولبنانهم.


لبنانيّات متباينة
يجمع كتاب "وداع لبنان" شهادات وسيرًا لأشخاص من مسيحيي جبل لبنان، رووا فيها مسارات جزئية ومحطات وأوقات من حياتهم العائلية والشخصية، وحوادث من التاريخ الاجتماعي لذاك الجبل وتحولاته في القرن العشرين. ولعل الشهادات والسير هذه تؤلف فصولًا أو شذرات من التأريخ الشفوي الحي للاجتماع المسيحي البلدي في جبل لبنان. وهو تأريخ جزئي وتفصيلي للاجتماع وحوادثه المحلية أو البلدية، وأنماط العمران والعيش والعلاقات والتدبير الاجتماعي والسياسي، كما يختبرها ويعيشها ويرويها الرواة في عائلاتهم وبيئاتهم، وتنعكسُ في تكونهم الفردي والاجتماعي وسلوكهم ويتفاعلون معها في منعطفات حياتهم.

وتنقل الروايات كيف عاش أصحابها ويعيشون انتماءاتهم وهوياتهم وزمنهم الاجتماعي المحلي، علاقاته وحوادثه ونزاعات جماعاته وصراعاته، وصلة هذه النزاعات والصراعات بهويات الرواة الشخصية والعائلية وبيئاتهم المحلية، وبلبنانهم ولبنانيتهم، وكيف وعوا ويعون هذا كله في مسار حياتهم؟

وتتقصى السير والشهادات الشِقاق الأهلي المحلي في مجتمع جبل لبنان في أوقات من القرن العشرين. وهو شِقاق تجتمع فيه وتتقاطع شِقاقات كثيرة متدافعة ومتنوعة: بلدية محلية أو بلدانية وأهلية وعائلية، طبقية واجتماعية متحولة ومتغيرة، مرتبية ونَسَبيّة وعشائرية متوارثة، حزبية وعقائدية محدثة لا تخلو من أصداء الهويات الأهلية والفئوية والمناطقية الفاعلة والقوية.

ففي جبل لبنان المسيحي يختلف الانتماء إلى لبنان عنه في مناطق ومجتمعات التخالط والتثاقف الاجتماعي والطائفي المسيحي - المسلم، شأن بيروت مثلًا.

فدوائر الاختلاط الطائفي يتبادل فيها المتخالطون ما سماه أحمد بيضون مرة "خجل اللبنانيين الطائفي". أما مناطق ومجتمعات الصفاء الطائفي فلا يحتاج أهلها إلى مثل ذاك الخجل، ويعيشون على راحتهم ورسلهم، وربما غير منتبهين لطائفتهم أو سادرين عنها. ويتساوى في هذا المسيحيون والمسلمون.

لكن لبنانية المسيحيين على وجه العموم والإجمال، تختلف دائمًا عن لبنانية السلمين. وهذا الاختلاف هو موضوع "الخجل الطائفي" ومداره في مناطق الاختلاط ومجتمعه ودوائره:

  • لبنانية المسيحي بديهية، فطرية أو شبه فطرية، أي متوارثة، ولا يداخلها سؤال ولا التباس أو انقسام وشقاق في انتماء الشخص الفرد، وفي هويته الفردية والجمعية المجتمعية.
  • أما لبنانية المسلمين، فعلى خلاف الأولى: ليست فطرية ولا متوارثة، ويداخلها سؤال والتباس وشِقاق تطاول هوية الشخص الفرد وهوية الجماعة وتختبرهما. وهي في هذا كله تختلف من جيل الى آخر.


سكان الصُّور
ولم يمحُ اختلاط سنوات الخمسينات والستينات اللبنانية (تسميها بعض الأدبيات اللبنانية الزمن الجميل) ذلك "الخجل الطائفي"، بل ربما أجلّته فيما هي تؤجّجُه.

أبناء جيلي مثلًا، وهم من أبناء أهل الضعف المسلمين، وعاشوا فتوتهم ومراهقتهم وشبابهم في بيروت وضواحيها في الستينات ونصف السبعينات الأول، منخطفين وشبه مذهولين بصور لبنان واللبننة في مدينة حرية الاختلاط والسفور والأهواء والتعبير وتفتح الرغبات في دوائرها البيروتية وفي ضواحي بيروت. كانت تلك الصور خُلّبيّة في حواسهم وجوارحهم ومخيلاتهم، وخُلّبيّة تلقفوها، فولّدت في نفوسهم توقًا جارفًا، جارحًا وأليمًا، إلى بلوغها وابتلاعها وامتلاكها. وهو توق يعادل إقبالهم المحموم على الانتماء إلى لبنان، أي على اللبننة أو التلبنن، اجتماعيا وثقافيا. هذا فيما كانوا يتململون وينفرون من الانتماء السياسي إلى لبنان وهويته "الوطنية" - أي من لبنان السياسي - التي كانت تصلهم بصفتها صنيعة المسيحيين ولبنانهم ولبنانيتهم. لذا عاشوا شقاقًا بين رغبتهم في التلبنن الاجتماعي والثقافي ونفورهم من لبنان السياسي. وحتى رغبتهم في التلبنن الاجتماعي - الثقافي كانت تنطوي على مكابدة نفسيّة وأخلاقية ناجمة عن مرتبتهم العامية في الاجتماع اللبناني، وعن عدم امتلاكهم وسائل ناجعة تمكّنهم من الانخراط الإيجابي في ما يترتب على اللبننة الاجتماعية الغريبة عن تقاليد أهلهم وهويتهم الاجتماعية والسياسية والدينية الموروثة.

وهكذا راحوا يتلقفون صور لبنان الاجتماعي - الثقافي ويسكنونها على نحو هيامي وهوامي خلّف في أنفسهم وذواتهم ارتجاجًا وجوديًا، وربى في صدورهم ضغينة دفينة، اجتماعية - سياسية على لبنان الدولة والمجتمع. وهي ضغينة تعادل صعوبة رغباتهم في التلبنن الاجتماعي، بل استحالة امتلاك صوره المدينيّة الخُلّبيّة والهوامية التي لا تبلغ. وتعادل أيضًا، مع جملة من عوامل أخرى كثيرة، العنف الذي انفجر على الغارب في الحروب الأهلية الملبننة سنة 1975.

لبنانيّة بلا صور
في المقابل، أُرجّحُ أن حال المسيحيين وأجيالهم في لبنانيتهم السياسية والاجتماعية، كانت على خلاف ذلك تمامًا. فلبنانيتهم السياسية والاجتماعية واحدة موحدة ومندمجة أصلًا وفصلًا تقريبًا في مجتمعهم. ولبنان السياسي الذي كان ينفر منه المسلم العروبي وغير العروبي أيضًا، ينتمي إليه المسيحي بالولادة غالبًا. أما اللبننة الاجتماعية التي كان المسلم يكابد ويصاب بارتجاج وجودي أثناء التهامه صورها الخُلّبيّة، فكانت عمومًا متجانسة ومتوائمة عامة مع قيم المجتمع المسيحي وتقاليده. فلا يحتاج المسيحي إلى مكابدة اجتماعية - ثقافية في مباشرتها وإقباله عليها، بل يستقبلها وتستقبله كأنهما صنوان تجمعهما تقاليد اجتماعية وثقافية مشتركة.

وما كان يثير نفور المسيحي ويغيظه على وجه العموم، هو ضعف لبنانية المسلم السياسية والاجتماعية، فيما هو ينظر إليه غالبًا من علياءٍ مرتبيّ إلى صاحب مرتبة أدنى. ومن هذين النفور والغيظ ولِد الغضب والضغينة المسيحيان على المسلم وعلى نفوره من لبنان السياسي وهويته، فيما كانت لبننته الاجتماعية المرتجّة تنطوي على فصام وضغينة دفينة.

لبنان الضغائن
ومن هاتين الضغينتين اللتين فاقمهما انتشار المنظمات الفلسطينية وسلاحها في مناطق لبنانية كثيرة ما بين نهايات الستينات والنصف الأول من السبعينات، انفجرت الحروب الأهلية الملبننة.

وتبيّن السير والشهادات أن المسيحيين الموارنة خصوصًا، ليسوا في حاجةٍ إلى اختبار لبنانيتهم الاجتماعية والسياسية، ولا إلى امتحانها امتحانًا فردياً شخصيًا، لا في تجارب حياتهم الفردية ولا تجاربهم الاجتماعية العامة، إلا في حال إقامتهم وعيشهم في دوائر الاختلاط أو الخجل الطائفي. (تجربة خجل المسيحيين في هذه الدوائر، تختلف تمامًا عن تلك التي يتعرض لها المسلمون ويعيشونها). فالآخرون هم من يعرّضون لبنانية المسيحيين ولبنانهم إلى امتحانات خارجية، يفرضها عليهم ضعف لبنانية أولئك الآخرين (المسلمون) ونقصها.

والمسيحيون لبنانيون سلفًا بالولادة، ويتوارثون لبنانيتهم كتوارثهم أنسابهم، وخصوصًا الموارنة منهم. أما المسيحيون الأرثوذوكس فيعيشون لبنانيتهم السياسية والثقافية على شيء من قلقٍ وفصامٍ خافتين، مقارنة بلبنانية الموارنة الخالية من الحيرة والقلق، سوى قلقهم على لبنان (لبنانهم) وهويته اللصيقة بهويتهم الطائفية والاجتماعية والأهلية والثقافية (الوطنية أو القومية؟)، بلا فرق ولا تمييز.

حيرة الأرثوذوكس وقلقهم يصدران عن شعورهم بأن لبنان واللبنانية لصيقان بهوية الموارنة، وليس بهويتهم التي أصابها تمزق جغرافي نتيجة إنشاء الفرنسيين لبنان (الكبير) كيانًا سياسيًا أدت حدوده الجغرافية إلى تقطيع أوصال جماعاتهم وتركها مفرّقة متباعدة في ما يفترضونه الديار السورية أو بلاد الشام، حسب التسميات البلدانية والجغرافية السياسية في أزمنة السلطنة العثمانية وحتى عشايا الحرب العالمية الأولى وما بعدها بقليل.

لبنان "حزب الله"
لكن ألم يفتْ عهد هذا كله وينطوي؟ وأين منه الشقاقُ اللبناني الكبير المنفجر حروبًا أهلية - إقليمية ملبننة سنة 1975؟ وأين منه أيضًا التنافر والشقاق الأهليين اللذين عاشهما لبنان "سلمًا أهليًا باردًا" ومنفجرًا أحيانًا، منذ توقف تلك الحروب وحتى اليوم ؟

ففي تلك الحروب انفجر "الخجل الطائفي" اللبناني وانجلى عن شِقاقات لا تعدّ ولا تحصى، وفي ديار اللبنانيين كلها، وبين جماعاتهم وطوائفهم وفي داخلها.

وها نحن اليوم، بعد مضي عقود ثلاثة على توقف الحروب الداخلية الملبننة، نحصد ثمارها في كل منطقة وحي وشارع، عصبيات عائلية وأهلية وطائفية، عائلات وأهل وطوائف، أجهزة وزعماء ونواب ومناصب للعائلات والأهل والطوائف... وفي قلب هذا كله، تحته وفوقه، تنافر علني فاضح ووقح، ودبيب فوضى شاملة وتحلل جماهيري في العمران والأشياء، في الحياة اليومية والحوادث واللغات والتعبير، وشقاقات أهلية قبلية - جماهيرية باردة ومتناسلة لم يسبق لها مثيل في تاريخ لبنان الحديث.

لكن ما نصيب الحروب الدموية الداخلية والإقليمية والدولية التي يخوضها منذ عقدين ونصف العقد جيش "حزب الله" الشيعي السري، وسط تركة الحروب التي وُلِد من رحمها ومن تحلّل الجماعات اللبنانية الأخرى، ليرعى تحلّلها الراهن ورعبها منه وولاءها الخبيث والمرائي له؟

لنفهم أين نحن اليوم، ربما علينا تصديق رواية الخلاص الكربلائي الحسيني الخرافية التي بعثها هذا الحزب الخميني من رمادها وصنعها صناعة جديدة، وبثها في جمهوره المذهبي الشيعي بلا هوادة، وبأحدث وسائل التواصل الجماهيري الراهنة. وقوام الرواية الخلاصية هذه أن حياة البشر الدنيوية لا تستقيم بغير الحرب ثأرًا لحكاية النجيع الحسيني الكربلائية منذ ألف وخمسمئة عام، وحتى ظهور الإمام الغائب، سيّد العصر والزمان، الذي ينطق باسمه الخطيب التلفزيوني المختبئ في سرداب من سراديب جيشه السري، ليملأ الأرض فوقه "عدلًا، بعدما مُلئتْ جورًا". وعلى ذلك والاه أتباعُ الشِّيعة العونيّة المسيحيين، ولاءَ المغلوبين لأهل السيف والقوة والسلطان.

كرنفال ومآتم
وحدهم بقايا الجماعات التي استنزفتها الحروب واستنزفت عصبياتها وأذهبتها، فصاروا بلا قوة ولا شكيمة أهلية وعصبية طائفية وقحة، يجتمعون في مناسبات طقسية متباعدة في مباني تراثهم الشاهقة بتواضع القِدم الأثري المتقشف ببهائه الأثيري القديم المُصان بالتجديد وسكينة الهجران.

وماذا سوى الكنائس والأديرة يشهد على حضور هذه المباني؟

ومن سوى بقايا المسيحيين في مناطق وأحياء تغلب عليها كثرة المسلمين، يشهد على خفوت تلك الشّكيمة الأهلية والعصبيّة الوقحة؟

وحاولت حركة 17 تشرين الأول 2019 اللبنانية الاحتجاجية الاحتفال احتفالًا كرنفالياً بخروج جموع من اللبنانيين من تلك العصبيات الأهلية وأجهزتها الصلبة، وعلى ولائهم لزعمائها المتنفذين. لكن بدا وظهر أن معظم أولئك الزعماء - وأن بدرجات متفاوتة - لا يتورع عن تحويل تلك الاحتفالات إلى مآتم.

- صدر في مستهل هذه السنة كتاب "وداع لبنان" للزميل محمد أبي سمرا (دار رياض الريس).