من أمر العسكريين المتقاعدين باحتلال اعتصام الأساتذة واقتحام السراي؟
وما كاد ريفي يُنهي كلمته حتى أدّى الهرج والمرج إلى اعتلاء بعض العسكريين المنبر، وانسحاب منظمي الاعتصام والوسائل الإعلامية. فبات الفناء المحيط بالمنبر خالياً إلا من بعض المتطفّلين الذين همّوا لسماع صراخ "الخطباء الجدد". حتى أنّ أمين سر رابطة معلمي التعليم الأساسي الرسمي حسين جواد، الذي كان بصدد إلقاء كلمته واقفاً بين الحضور، لم يستطع إلى ذلك سبيلاً. ولعل أبلغ توصيف لهذا المشهد ما قاله جواد نفسه مستهلاً كلمته باستنكار ما يحدث، متّهماً العسكريين بـ"احتلال المنبر"، وتمّ إسكاته ولم يتمكّن من إكمال كلمته، ما حذا ببعض النقابيين إلى استلام مكبّر الصوت، داعين الموظفين والأساتذة إلى الانسحاب من ساحة الاعتصام، معلنين انتهاء يومهم المطلبي، مندّدين بتلك التصرفات التي لا تؤدي إلّا إلى إحداث التفرقة بينهم وضياع الحقوق.
اعتصام حاشد
ما كادت الساحة تخلو من الموظفين المدنيين حتى توالت الصرخات الداعية للعسكريين بالتقدّم إلى السياج، حيث كانت تتجمّع قوات مكافحة الشغب، تمهيداً لاختراقها والوصول إلى طاولة مجلس الوزراء لقلبها على رؤوس الجالسين حولها.
خلافات بين العسكريين
قبل شنّ العسكريين المتقاعدين "الغزوة"، بهدف احتلال السراي الحكومي، وبينما كان النقابيون يلقون كلماتهم، علا صراخ العسكريين المتواجدين بالقرب من السياج الفاصل مع قوات مكافحة الشغب. فبعض الضباط نادوا العسكريين لتشكيل لجنة بغية الصعود إلى السراي الحكومي لعرض مطالبهم، طالبين من أحد معوّقي الحرب ووالد شهيد الانضمام إليها. لكن ضباطاً ورتباء احتجّوا على تشكيل اللجنة كون "من هم في السراي حراميي". ودعا أحدهم العسكريين إلى عدم الامتثال لمقابلة الوزراء: "الشخص الوحيد المخوّل بالاستماع لعرض المطالب هو قائد الجيش".. وعرض المطالب لهؤلاء "الحراميي" مضيعة للوقت، مضيفاً بإنّ لا خيار بديل عن احتلال السراي. بلبلة أدّت إلى عدم تشكيل اللجنة، والملفت فيها أنّ المتحمسين لخيار احتلال السراي أكثرهم من الجيل الشاب، ما بدا مستغرباً كيف أحيلوا إلى التقاعد في هذا السنّ المبكّر.
أمر اليوم
أتى "أمر اليوم"، من مكان ما، إلى العسكريين كي يوصّلوا رسالة ما إلى الوزراء المجتمعين لبحث الموازنة. وبدأ العسكريون بدعوة أقرانهم إلى التقدم نحو السياج الحديد. وعلى وقع كلمات "ولّع، ولّع" و"كلّن، كلّن حراميي"، والدعوات إلى احتلال السراي، أتت كلمة السر بإشعال إطارين مطاطيّين في ساحة رياض الصلح، وهبّ العسكريون لتلبية "النداء". ولم تتمكّن قوات مكافحة الشغب بعناصرها القليلة، وهو أيضاً أمر مستغرب، من "صدّ هجوم" العسكر المتقاعد.
هجوم عنيف تسلّح فيه بعض المتقاعدين بـ"السلاسل المعدنية" (الجنازير)، أدّى إلى سقوط بعض الجرحى من قوات مكافحة الشغب، وإصابات في صفوف المهاجمين. ولم تلجأ القوى الأمنية إلى استخدام القنابل المسيلة للدموع أو الرصاص المطّاطي، كما هو معتاد في مثل هذه "المناسبات". ولم يتمكّن خرطوم المياه الوحيد الذي استخدم من صدّ الهجوم، فوصل العسكريّون إلى المدخل الرئيسي للسراي الحكومي وحاول بعضهم تسلّق السياج وسور المبنى لناحية كنيسة الكبوشية من دون أن يفلحوا، في ظل وقوف العديد من العسكريين الفعليين على الحياد!
بالقرب من مدخل السراي
توالت دعوات المتقاعدين لزملائهم الذين مكثوا بالقرب من خيمتهم في ساحة رياض الصلح، إلى الانضمام إلى صفوف "المهاجمين"، للتقدّم إلى داخل السراي، في مشهد لاقى استحسان عوائل العسكريين الذين حضروا لنصرة العسكر في "غزوته". فراح الأهالي وبعض المواطنين المتفرجين إلى بث الحماسة في صفوف "المهاجمين". حتى أنّ التعزيزات الإضافية من الحرس الحكومي ومن قوات الشغب، بدت عاجزة عن صدّ الهجوم، لولا تدخّل كلمة "السر" مرّة جديدة. فتسلّم أحد الضباط مكبّر الصوت ودعا العسكريين إلى الجلوس أرضاً قائلاً: "المفروض تكون الرسالة وصلت للحراميي لي قاعدين جوا.. وإذا ما وصلت منرجع منوصّلها مرة تانية". ثم تولى الكلام ضابط آخر مندّداً "بسرقة أموال المتقاعدين لإنفاقها على مستشاري الوزراء"، وحاول تهدئة الحشود لعدم المضي قدماً، قائلاً: "اليوم دقينا الباب وبكرا رح نفوت عَ المجلس". رسالة أنهت "الغزوة" عند باب السراي، لكن فحواها وصل إلى داخل مجلس الوزراء.
وصلت الرسالة
بعد هذه "الغزوة"/ الرسالة، والمشهد "المريب" للعسكريين المتقاعدين وهم يحتلّون السراي الكبير، بلحاهم الكثّة ونظّاراتهم السوداء، وحملهم السلاسل المعدنية، وهندامهم العسكري الذي ارتداه بعضهم، تمّ تشكيل لجنة التقت بوزير الدفاع الياس بو صعب. ما يعني أنّ "البعض" أراد إيصال رسالة فحواها أبعد من الاعتراض على الاقتطاع من رواتبهم. خصوصاً أنّ أبو صعب أكّد للجنة أن ما بدر إلى مسامعهم من تخفيضات ستطال رواتبهم أو التقديمات لزوجات المتوفين من المتقاعدين، أو لزوجات وأولاد الشهداء في الجيش اللبناني، هي مجرّد شائعات. وأعلن أنّ التخفيضات في الموازنة لن تطال هذه البنود، بل على عكس ما يشاع، تمّت إضافة 35 مليار ليرة للمساعدات الاجتماعية والطبابة والولادة وغيرها من الأمور التي تصب في منفعة العسكريين وعائلاتهم. وكلام أبو صعب ليس بجديد وقد أكّده أكثر من مسؤول من أن لا مسّ بالرواتب، وجل ما في الأمر فرض ضريبة 3 بالمئة على الدخل كبدل طبابة، كي يصبح العسكريون متساوين مع بقية موظفي القطاع العام.
فهل كان المطلوب وضع خطوط حمراء حول نقاش مجلس الوزراء لإمكانية إلغاء التدبير رقم 3 الذي يتعلق بالعسكريّين الفعليّين في الخدمة وليس المتقاعدين "المهاجمين"؟ لعلّ تغريدة النائب السابق وليد جنبلاط توضح بعض الالتباس عندما قال تعليقاً على "غزوة" السراي: "هل يعقل أن تقف بعض من الدولة تتفرج على البعض الآخر يقتحم السراي الحكومي؟ وهل يعقل أن نصل إلى هذه الدرجة من الفوضى، فقط لأنه مطلوب إعادة النظر في التدبير رقم 3 في الحد الأدنى لترشيد الإنفاق؟ ما هو المطلوب، الفوضى والإفلاس ورفض الإصلاح؟"