عام الفضائح المدوية يؤسس لانتفاضة 17 تشرين (1)

محمد أبي سمرا - وليد حسين
الثلاثاء   2019/12/31
لا تزال جذوة الثورة حية راعفة (عباس سلمان)
شارف عام 2019 على الانتهاء بانتفاضة لبنانية عفوية، شبابية وشعبية، على المنظومة السياسية الأوليغارشية، المتجذرة في لبنان منذ اتفاق الطائف وتوقف الحروب الأهلية - الإقليمية الملبننة عام 1990.


ملامح الانتفاضة
بدأت الانتفاضة، أو الحركة الاحتجاجية، في 17 تشرين الأول 2019. لكن الناشطين الشبان والشابات الذين افتتحوها عملت شبكاتهم - مع الشاشات التلفزيونية - في نشر نشاطاتها وتوسعها، يفضلون تسميتها واعتبارها ثورة غير مسبوقة في تاريخ لبنان الحديث. ذلك بناء على اعتباراتهم التالية:

1- لا مركزية الحركة الاحتجاجية ودوامها، بلا قيادة وبأقل درجة من التنظيم الآني والمباشر. ومشاركة مدن ومناطق كثيرة فيها، وخصوصاً مدينة طرابلس، إلى صيدا وصور والنبطية وبعلبك وزحلة، وبعض مناطق المتن وكسروان (جل الديب، زوق مصبح، خصوصاً)، إضافة إلى مركز النشاطات الاحتجاجية الكبرى في العاصمة بيروت.

جلّ الديب (علي علّوش)

2- وهناك ميزة أخرى حملت الناشطين أنفسهم على التمسك بكلمة ثورة، تسميةً للحركة الاحتجاجية وفي هتافاتها: اعتبارهم أنها - وقد لامس استمرارها نهاية السنة المنصرمة - أسقطت الحكومة، وحافظت على زخمها الواسع والمتقطع طوال أكثر من شهرين، وأرغمت مجلس النواب مرتين على  إلغاء جلساته، وأجبرت سائر السياسيين على الاختفاء من الحياة العامة ومن المنابر الإعلامية، وخصوصاً التلفزيونية. وهذه تحوّلت، طوال أيام الاحتجاجات، منبراً دائماً للناس العفويين الذين تدفقوا إلى الشوارع والساحات، وباشروا يعبرون -بطلاقة وتعثر- عن أنفسهم ومظالمهم ومطالبهم وتذمرهم من الحالة المعيشية المتردية، ومن انعدام الخدمات العامة في البلاد، إضافة إلى دعوتهم السياسيين إلى التنحي عن مناصبهم: "كلن يعني كلن"، حسب الشعار الأكثر شيوعاً على ألسنة المتظاهرين وفي هتافاتهم في الساحات والشوارع.

ساحة رياض الصلح (مصطفى جمال الدين)

والهتاف - الشعار هذا كان بدأ يتردد للمرة الأولى في احتجاجات صيف 2015 في وسط بيروت على الفساد في إدارة النفايات التي تراكمت في شوارع المدن والمناطق مدة طويلة. وأثار الشعار مشكلة وتهديدات آنذاك، بعدما ضمّنه بعض الناشطين اسمَ السيد حسن نصرالله خطيب "حزب الله" التلفزيوني، وأمينه العام الذي يعتبره جمهوره مقدساً ولا يمكن سوى التسبيح باسمه وفضائله على الخلق.

لكن هتافات انتفاضة 17 تشرين 2019 تجاوزت ذلك الهتاف إلى شتيمة كثرة من السياسيين اللبنانيين بأسمائهم، وعلى رأسهم جبران باسيل، صهر القصر الجمهوري، ومدلل عمه الرئيس ميشال عون الحالم بالوصول إلى سدة الرئاسة منذ العام 1988.  

3- والاعتبار الثالث لترجيح الناشطين صفة الثورة على الحركة الاحتجاجية، هو اعتبارهم أنها حرّرت جمهوراً واسعاً من اللبنانيين من انتماءاتهم وغرضياتهم الطائفية والحزبية. تلك التي سجنهم زعماؤهم، وسَجنَ شطر كبير منهم نفسه فيها. وذلك بوصفها (الانتماءات والغرضيات الحزبية) المنفذ الوحيد إلى العمل والوظائف والارتقاء الاجتماعي. وكذلك للحماية والانتفاع والمكانة والتصدر والإعالة، وللسياسة والتعبير السياسي اللذين يقتصران على الاستزلام والتبعية والتشبث بالولاءات والتسبيح بأسماء الزعماء الحسنى وخدماتهم. وقد حُرِمت فئات واسعة من ذلك كله، إذا لم تندرج في تلك الانتماءات ومنظومتها التي أدت وتؤدي إلى الفساد في المجالات السياسية والمالية والاجتماعية، على السواء.

في وسط بيروت، كرنفال الاستقلال (ريشار سمور)

 

4- وعلى الرغم من خفوت الحركة الاحتجاجية، فإن جذوتها لا تزال حية راعفة، في انتظار حلقة جديدة على الأرجح، وقد تكون مختلفة عن الحلقة الأولى، وأكثر جذرية منها. هذا بعدما ظهر واضحاً أن السياسات المالية والاقتصادية وضعت لبنان، منذ سنوات، على طريق التعثر الذي تكشّف عن انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية، وتعثر المصارف، وحجزها أموال المودعين ورواتبهم الشهرية، وارتفاع أسعار السلع كلها، وإقدام مؤسسات وشركات كثيرة على صرف موظفيها وعمالها. إضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة على نحو غير مسبوق، والحديث عن الفقر واحتمالات الجوع بين الفئات الدنيا من اللبنانيين.

موجة جديدة من الاحتجاجات
قد يكون ما حصل في لبنان، موجة جديدة من الانتفاضات والثورات العربية الأولى التي بدأت من تونس في نهاية العام 2010، وانتقلت إلى مصر وليبيا واليمن وسوريا والبحرين. وواجهت تلك الثورات الشعبية العارمة "ثورات" مضادة عاتية أدت، إما إلى إجهاضها (مصر، والبحرين)، وأما إلى حروب سلطوية تقترب من إبادة السكان بمئات الألوف، أو استئصالهم وتهجيرهم بالملايين (سوريا التي تحولت أرض خراب وحروب دولية متشابكة)، وإما إلى حروب أهلية - إقليمية ودولية لا تزال مستمرة (ليبيا، واليمن).

أما الموجة الجديدة الثانية من الانتفاضات أو الثورات العربية، فاستهلها السودان في الشهر الأخير من العام 2018، واستمرت نحو سنة كاملة، وأدت إلى اسقاط نظام عمر البشير والإسلاميين، وإقامة نظام انتقالي بالتشارك بين المدنيين والجيش. وهو نظام يمهد للمرة الأولى عربياً لحكم ديموقراطي في السودان. وفي شباط 2019 انطلقت الثورة في الجزائر، وهي لا تزال مستمرة، على الرغم من إسقاط رأس السلطة والنظام فيها، عبد العزيز بوتفليقة و"عصابته" الحاكمة، على ما يردد الجزائريون.

والموجة الثانية هذه ضمت العراق ولبنان، على نحو متزامن تقريباً. وهي متشابهة في هذين البلدين بغلبة جيل شاب على إطلاقها وتصدُرها والمشاركة الفاعلة فيها. هذا على الرغم من تميز الانتفاضة اللبنانية بمشاركة النساء مشاركةً واسعة وشديدة الفاعلية فيها. ما أثار تعليقات واسعة عن هذه المشاركة غير المسبوقة عربياً.  واحتجاجات العراق ولبنان متشابهةً أيضاً بوجهها الاجتماعي والسياسي: قيام المحتجين على سلطة تقاسم الريوع والفساد، التي يرعاها، ولو بدرجات متفاوتة، النظام الإيراني بأذرعه الميليشاوية المحلية (الحشد الشعبي في العراق، وحزب الله في لبنان). وهذا على الرغم من اختلاف التركيب الاجتماعي للاحتجاجات، ودرجة العنف المضاد الذي واجهها في كل من البلدين: عنف مفرط ضد المحتجين في العراق (أكثر من 500 قتيل وآلاف الجرحى، حتى الآن)، وعنف جسدي ميليشيوي غير مسلح قامت به زمر من "حركة أمل" و"حزب الله" ضد المحتجين اللبنانيين. وأحياناً اعتمدت القوى الأمنية بعض العنف المفرط، وخصوصاً الجيش ومخابراته، في المناطق المسيحية، حيث اعتقل كثرة من الناشطين. وقد سقط قتيلان في غمرة الاحتجاجات المديدة التي شملت مناطق ومدن لبنانية كثيرة.

وتزامنت الاحتجاجات اللبنانية والعراقية بانتفاضة إيرانية شملت مدناً ومناطق كثيرة في إيران. لكنها تعرضت إلى عنف مسلح مفرط، بأمر مباشر من ولي الفقيه المرشد الأعلى علي الخامنئي، أدى إلى سقوط أكثر من 1500 قتيل في يومين، على يد الحرس الثوري، الذي يتقاسم أحد أركانه، قاسم سليماني، مع خبراء الجيش الروسي، الهيمنين على بقايا نظام الأسدين في سوريا. وكذلك على "ثورة" ميليشيات الحشد الشعبي المضادة في العراق. إلى جانب إدارة سليماني نشاطات حزب الله في لبنان.

بؤر الانتفاضة اللبنانية
في الليلة التي تلت نهار إذاعة لجنة وزارية لبنانية مكلفة إعداد حزمة ما يسمى "إصلاحات مشروع موازنة العام 2020"، انطلقت في بيروت وضاحيتها الجنوبية الشرارة الأولى العفوية لانتفاضة 17 تشرين الأول 2019 اللبنانية. وذلك بعيد تبشير وزير الاتصالات محمد شقير اللبنانيين بـ "إصلاحاته" المزعومة: فرض ضريبة 6 دولارات شهرياً على المكالمات الهاتفية الفورية المجانية عالمياً، والمعروفة بخدمة واتس آب. هذا بعدما كانت موازنة العام 2019 حافلة بضرائب كثيرة طالت رواتب المتقاعدين.

قطع الطرق (مصطفى جمال الدين)

ومن الأنشطة الأولى للانتفاضة اللبنانية: قطع المحتجين الطرق الرئيسية بالإطارات المطاطية المشتعلة، والتجمهر في الشوارع الساحات العامة، واعتماد السلمية سبيلاً الى التعبير عن المطالب التي وُلدت وصيغت، مع شعاراتها وهتافاتها، على نحو عفوي متدرج. وسرعان ما تنوعت أشكال التعبير، وخصوصاً في ساحات رياض الصلح والشهداء واللعازارية في وسط مدينة بيروت، حيث نصب الناشطون والناشطات خيم الاعتصام الدائم، وعُقدت حلقات يومية للنقاش والتداول السياسيين. وغطت الجدران في كثرة من نواحي وسط بيروت شعارات الانتفاضة ورسومها من نوع الغرافيتي. وهذا ما حوّل تلك الجدران من ملساء صامتة، إلى ملونة لاغطة، لاهية وهاذية.

النبطية (علي علّوش)

وسرعان ما امتدت الانتفاضة واتسعت رقعتها. وعلى المثال البيروتي اتخذت ساحات عامة في مدن عدة بؤراً لها ولمخيماتها. وكان التجمهر في ساحة النور (عبد الحميد كرامي) الطرابلسية، هو الأوسع والأكثر دواماً. أما في صور والنبطية وكفرّمان في الجنوب - حيث معقل الثنائي الشيعي ("أمل" و "حزب الله") وحصنه الاجتماعي والأهلي المنيع - فكانت الاحتجاجات ومخيمات الاعتصام هي الأكثر جرأة وإقداماً. وذلك بسبب القبضة الميلشيوية الصلبة لـ "أمل" و "حزب الله" على الأهالي والناشطين في تلك المدن. وفي كفرّمان تميزت مسيرة نسائية بزهوها ونضارتها، النقيضين للقتامة والكآبة والذكورية التي يفرضها الثنائي الشيعي في مناطقه. أما في ساحة الشهداء البيروتية فكان لافتاً ومفاجئاً الكرنفال الشعبي الحاشد الذي نظمه الناشطون والناشطات بمناسبة ذكرى الاستقلال في 22 تشرين الثاني. فجاء ما تميز به من فرح تلقائي زاهٍ ولهو منظم، ليعكس تعطش اللبنانيين وتوقهم إلى إحياء كرنفال وطني جامع. وذلك على خلاف ما بدا عليه الاحتفال الرسمي بالمناسبة في وزارة الدفاع باليرزة: العزلة والقتامة والكآبة والنفور التي خيمت كلها على هامات الرؤساء الثلاثة. 

طرابلس (جنى الدهيبي)



وقد أكملت هذا المشهد الرسمي وضاهته في القتامة ما شرعت تفعله زمر المنظمتين الشيعيتين في هجماتها العنيفة على محتجي الساحات كلها، قبل وبعد توجيه الشيخ حسن نصرالله أوامره للشيعة المشاركين في الاحتجاجات، كي ينسحبوا من الساحات. لكن الهجمات العنيفة على المتظاهرين والمحتجين في الساحات كلها، استمرت زمر "حركة أمل" في تصدرها هاتفة: "شيعة شيعة شيعة". وشاركت في هذا العنف المنفلت الأجهزة الأمنية الرسمية التي تديرها وتوجهها قيادة الحركة نفسها في محيط مجلس النواب في وسط بيروت، وحول مقر رئيسه في عين التينة. 
(يُتبع)