يوميات من "ثورة تشرين" المؤنثة والمجيدة (3)

ريم جبر
الخميس   2019/11/28
..ولم أتجاوز بعد رهبة دخول "البيضة" (Getty)

هي يوميات شابة لبنانية في ساحات الاعتصام وخارجها. هي مشاهدات ومفارقات، وتحولات في اللغة والأفكار، تدونها وتتذكرها. هنا الجزء الثالث والأخير.

الاثنين 10/11/2019
في طريقي إلى المنزل، سمعت طرق طناجر صادر من سكان مباني كركول الدروز. فأيقنت أنها الساعة الثامنة. وصادفت سيدة محجبة على ناصية باركينغ بناية، تشارك بطرق الطناجر أو دقها حاملة غطاء طنجرة وملعقة طهو بلاستيكية. استأذنتها وصورتها.

قررت عدم الذهاب إلى المنزل والتوجه إلى رياض الصلح، شوفير السرفيس سألني عن الصوت، قرع الطناجر قلتُ له احتجاجاً. صار يهز برأسه معترضاً قائلاً شوفي البلد بأي حال صار. لم أرد، ابتسمت. على شارع سبيرز، صعد شاب يحمل علماً كبيراً إلى السيارة وقال له على ساحة الشهداء، قال الشوفير أوصلك إلى حد أوتيل لوغراي. والعلم اللبناني الكبير صار يرفرف من سيارة هذا الرجل، الذي كان قبل دقائق يستمع إلى خطاب حسن نصر الله، وبعدها إلى مقتطف من خطاب بري.. ويتأفف من الثورة. ترجلت والشاب في لحظة واحدة من سيارة السرفيس، فكرت أن أتوجه إليه بالكلام. ولكنني لم أفعل.

خيم وكلام و"جيل ضائع"
في باركينغ في جوار مبنى اللعازارية ومقابل جامع الأمين، عدد من الخيم، خيمة دعم نفسي-اجتماعي، وخيمة الشعب يقاوم الفساد، وخيمة بيروت مدينتي، وخيمة حوار الشباب وخيمة خلينا نتحاور سوا، وخيمة المتقاعدين في القوات المسلحة.

توقفت عند خيمة الشعب يقاوم الفساد، وسمعت رجلاً يروي تجربة عيشه في الكيبيك مونتريال. وبدأ يتكلم عن حجم الكيبيك وأن المقاطعة هذه أكبر من مساحة لبنان، أعتقد أنه كان يرمي إلى قول أن مشكلة لبنان بالتالي قابلة للحل لأنه أصغر. ولكن شاباً قاطعه قبل توضيح مقصده قائلاً ما حاجتنا إلى الكلام على مساحة الكيبيك، فواصل صاحب المداخلة كلامه عن شكل القوانين والفرق بين الحرية الشخصية والواجبات والحقوق. فمثلاً في مونتريال لا يستطيع أن يشرب ويثمل على الطريق، ثمة أماكن لشرب كاس. فقاطعه الشاب نفسه قائلاً "شو بدنا بكيف شربت كاس مش المسألة كيف بدنا نشرب كاس.." رد المتكلم مذكراً بأنه ضيف لبى دعوة إلى الكلام، وهمّ بالمغادرة. فطُلب منه البقاء ومواصلة مايريد قوله. قال أنه يفضل انتخابات مناطقية، مثلاً انتخابات بالشمال لا صلة لها بالجنوب. ولكن لم يشرح كثيراً، ثم قال أنه يفضل قانون انتخابات لبنان دائرة واحدة، فيقرر مجلس النواب المعاهدات الخارجية ونوع العلاقات مع الدول. هنا تدخل رجل، قرأ مادة من الدستور من شاشة هاتفه موضحاً ما قيل قبل حضوري، ومحذراً من الفايك نيوز، وضرورة التأكد مما يُنسب إلى الدستور.

واصلت طريقي إلى خيمة علاج نفسي-اجتماعي، هناك التقيت دكتورة في علم النفس، قالت أنها وزملاء لها يقدمون الدعم النفسي للمتظاهرين ويستمعون إلى معاناتهم. وأعد القائمون على الخيمة لائحة نصائح موجهة إلى الأهل حول سبل التعامل مع الأطفال بين سن العامين والستة الأعوام، في شرح ما يجري. ومن هذه الارشادات "توخى الصراحة والوضوح في جواب سؤال الولد، وطمئنه وكلمه بثقة"، "توسل بلغة بسيطة مثل الناس مزعوجين وبدن يعبرو عن حالهن بصوت عالي مثلما أنت بتعصب لما أختك تلعبلك بألعابك وتجي تشكيلي (تأتي إليّ للشكوى)".

ثم إلى خيمة أخرى. هناك كانت سيدة شابة تجلس على بساط على الأرض، وغيرها متحلق وقوفاً أو جلوساً على مقاعد. وكانت تقول أن الثورة تعنيها وأنها لم تنجب أولاداً ولا تريد أولاداً وليس ما تفعله من أجل الأجيال المقبلة فحسب، بل من أجلها أيضاً لأنها لم تهاجر في وقت كان يسعها ذلك. وأخذت شابة أخرى الميكرو، وقالت "نعم تظاهرنا ضد السنيورة وقلنا يا سنيورة يا منشار رجع الـ11 مليار، ورحنا عل زيتونة باي واعتصمنا، ونشرنا صور تحركنا على الفايسبوك وعملنا "share" بس ما العمل بعد هذا، كيف نسترد الأموال والأملاك البحرية؟".

فبدأ المحامي نزار صاغية الكلام معتذراً عما قيل قبل قدومي. ويرجح أن السيدة الجالسة على البساط كانت ترد عليه، فقال انه قصد بالجيل الضائع ما قاله الكاتب الأميركي المولود في مطلع القرن الماضي عن "الجيل الضائع"، بعد حرب عالمية نتج عنها أزمة اقتصادية حادة مثل الأزمة التي نعيشها اليوم وحرب عالمية ثانية...

شمس أم قمر؟
على بعد خطوات، دخلت خيمة "حوار الشباب" وخيمة "خلينا نتحاور سوا"، وكانتا فارغتين من غير حضور، فيما خلا شاب أصر على إضاءة الخيمتين من أجل الصورة، التي يجب أن ألتقطها على ضوء عوض التي التقطتها وكان الضوء خافتاً. أخبرني أنه من أول يوم انتفاضة نزل يشارك. لأن ما سبقها لا يُحتمل: "طوال أيام كان لبنان عم يحترق، ثلاثة أيام وما حدن منن عمل شي ولا تأثر. وبعدين إجا قال (لم يسم الوزير شقير) بدو يزيد عشرين سنت على الواتسآب ليتسنى له تشييد مبنى باهظ الثمن، ما في كلمة عن الناس اللي ماتت. مشان هيك نزلت. شو هيدا".

دعاني إلى مشاهدة جدارية رسمها شاب وصبية خلف خيمة اسمها "the hub الملتقى". "هكذا جاء شاب وصبية، وطلبا إذن رسم لوحتهما ورسماها" قال بإعجاب. اللوحة هي بالفعل أربع لوحات: أولها امرأة مثل إلهة ربما هي لبنان ملتحفة بالعلم اللبناني ومنبثقة من مياه هي أرزة، وشابان يرفعان العلم اللبناني وخلفهما شمس مضيئة أم ربما هو قمر منير، ثم وجه سيدة، وبعدها رجل على عكاز يحمل أداة تنظيف "لقاطة". في البدء، لم أعرف من هو، ثم قلت للشاب هذا أيقونة الثورة، انه الرجل الذي كان يتولى تنظيف ساحة الاعتصام في طرابلس وهو على عكاز. وبحث عنه قوم السوشيل ميديا، وعثروا عليه بعد تبرع طبيب له بعملية زرع رجل صناعية. وجدوه وأعلموه بعرض الطبيب، وبدأ رحلة العلاج.

البيضة
نظرت إلى أمامي نحو البحر، رأيت الجدارية وبعدها جامع الأمين، وإلى اليمين "بيضة بيروت"، مجمع السينما الموروث من بيروت ما قبل الحرب ويعرفه جيل اليوم بالبيضة. على رأس البيضة المبقورة شابان يمشيان، وآخرين يغادرونها وينزلون سلالمها بتأن في غياب ضوء منير. تحولت البيضة إلى ساحة لعرض أفلام عن الثورات، كما أخبرني شاب وصديقه قبل يومين. قالا أن العرض "كثير حلو" عن "الثورة هون عام 2013، وفيها ثكنة فتح الله وكل شي". لم أعرف عماذا كانا يتكلمان، سألت عن المخرج، قال واحدهما جبران الرحباني. قاطعته صديقتي "قصدك زياد الرحباني" فبدت عليه الحيرة. ربما هو في مطلع عقد العشرين.

قلت لصديقتي يومها أنني أخشى دخول هذا المبنى، ولم نكن متحمسات لدخوله بسبب ما يقال أن "جماعة الـ aub وضعوا اليد عليه. ولكنني حقيقة لم أتجاوز بعد رهبة دخول "البيضة". وفي مطع ثورة 17 تشرين الأول، سمعت عن شاب وقع هناك وفارق الحياة بعد أيام، سقط ولكن يبدو أنه لم يجد "بيريتوس" كما في رواية ربيع جابر "بيريتوس: مدينة تحت الارض"، ولم يلقَ جيراناً وأقارب مفقودين في الحرب هناك أحياء يرزقون في "مدينتهم تحت الارض". والحق أن الروايات متضاربة عن مكان سقوطه وتفتقر إلى الدقة. فبعضها يقول أنه سقط في مبنى مهجور برياض الصلح وبعض آخر يقول أنه سقط في مبنى قيد الانشاء في ساحة الشهداء. وبعد أيام، قال صديق لحسين العطار، أول شهيد في ثورة تشرين قضى غدراً على ما روى صديقه، أن والد عمر زكريا يجوب ساحتي الشهدا ورياض الصلح، ربما ليجد العزاء على مصيبة فقدان ابنه.

في ساحة رياض الصلح جموع من الناس، بعضها شلل وبعضها أفراد. صاح شاب على الميكرو: "ما لازم نقول مسلم ومسيحي ودرزي بقى.. كلنا أمة محمد". ظننتُ للوهلة الأولى أنني لم أسمع فعلاً ما قاله، ثم نظرت إلى شباب وصبايا يقفون إلى جانبي وكانوا يضحكون. وفي اليوم التالي، وجدت أكثر من ناشطة نقلت ما قاله الشاب على الفايسبوك مع وجه إيموتيكون يضحك.

الثلاثاء 12/11/2019
قبيل الساعة الثامنة، علت أصوات قرقعة فأيقن الناس أن الساعة صارت الثامنة وركض الشباب والصبايا لقرع الستار الحديد المسور لمبنى "التياترو الكبير" مستعيضين بصوته عن الطناجر.

17/11
ساحة الشهداء مقابل المسجد الأمين في مطلعها أربع نساء جالسات على كراسي يدخن الأرجيلة وأمامهن صف من الأراجيل الجاهزة. فثمة نساء ورجال بدأوا يعملن ويعملون في بيع القهوة أو توفير الأرجيلة لمدخينها بعد بطالة مديدة، وكذلك انتشرت عربات الذرة المسلوق والمشوي والفول. ولكن شابة احتجت على سعر عرنوس الذرة (يتراوج بين 3 آلاف ليرة و4 آلاف ليرة) قائلة كيف يكون العرنوس شعبياً وسعره أكثر من دولارين؟.

وليس والد عمر ذكريا الوحيد الذي يجوب ساحات الثورة على أمل كفكفة ألم الفقدان. فثمة شاب يقول أنه شقيق حسين العطار، حرص وصديقاه على رفع صورة حسين إلى جوار صورة علاء أبو الفخر المحاطة بالشموع، والتي صارت محجة الناس. وكان شقيقه على قوله، وهو فعلاً صديقه المقرب، حين قدومي يرفع صورته على عمود غير بعيد من مجسم القبضة بعد تسلقه. وحين رأته شابة كانت تشعل شمعة على ضريح صور ثلاثي شهداء الثورة، حسين وعلاء وعمر، يمسح دموعه، ضمته إليها. وبعد رحيلها، جلسنا صديقتي وأنا في حلقة على الأرض مع صديقيه. وصار واحدهما يمازح شقيق حسين الذي فاز بتعاطف شابات وسيدات ضممنه إليهن. فقال ما رأيك أن نخطفك هنا أو نقتلك، فتصبح صورتك إلى جانب الشهداء، وتأتي النساء من أجلك.
(انتهت)