يوميات من "ثورة تشرين" المؤنثة والمجيدة (1)

ريم جبر
الثلاثاء   2019/11/26
.. وهتفت شابة أن الشباب من جل الديب قادمون لدعم المتظاهرين على الرينغ (علي غلّوش)

في اليوم التالي على الانقضاض على تظاهرة "ثورة تشرين"، أي الخميس 31/10/2019، قصدت متجر "كلاس"، في شارع مار الياس، لبيع الهواتف الخلوية، مع صديقتي لتشتري هاتفاً. قال أن سعره 600 دولار، فسألته عن المبلغ باللبناني فقال مليون و80 ألف ليرة. استنكرت أكثر من مرة. وبالنهاية وبنفاد صبر، قال "مرّي بهل يومين" وكأنه يقصد أن سعر الصرف قد ينخفض. وخلال تفحص الهواتف، جاء زميل العاملين في المتجر وبدأ كلامهم عن الطرق المقطوعة و"ما في روحة عالبيت اليوم". فتدخلت في حديثهم الذي بدأ خاصاً على رغم وجودي في المحل. أصريت بالسؤال عن مكان الاشتباكات وأطرافه، فقال كورنيش المزرعة بين المستقبل وحركة أمل. فاعترضت قائلة كورنيش المزرعة قريب كثير، على بعد خطوات.. كنا لنسمع. فقال قصدي سيقع الاشتباك ولم يقع بعد.

طناجر السفارات وأحاديث الشباب
في الطريق إلى ساحة رياض الصلح، كان شباب وصبايا متكئين على حاجز اسمنتي بالقرب من بنك لبنان والمهجر يتكلمون بصوت عال عن اشتباكات، فسألتهم أين؟ قالوا "بـ(ساحة) رياض الصلح، ما تروحو لهونيك". نظرت إلى صديقتي وأكملنا الطريق على بعد "فشخات" (خطوات)، ومسافتها أقل من خمس دقائق. رأينا جمعاً ضئيلاً من الناس. وعلى مقربة من بنك الاعتماد اللبناني، شابان أمام طاولة عليها ثلاث حلل كبيرة، فسألتُ شو في أكل. قال "هيدي طنجرة من السفارة الاميركية، رفع الغطاء ورأيت مدردة رز وعدس، وهيدي طنجرة (من السفارة) الفرنسية، فيها شوربة عدس. وقال ضاحكاً بس أول طنجرة فيها طبخة لبنانية، فرفع الغطاء ورأيت الرز "المفلفل" بلا شعيرية. وفي الأثناء، طلب رجل صحناً من الطعام، أكل وبدأ يدافع عن سعد الحريري، ولم يستوقف أحداً كلامه ولم يرد عليه أحد. بدا كأنه يناجي نفسه، على رغم أنه على الأغلب كان يريد "جس نبض" الشارع.

إلى الأمام، بعد تمثال أحد آباء الاستقلال، رياض الصلح، وقبل طلعة السراي الحكومي التي قطعتها القوات الامنية، اقتربت وصديقتي من حلقة من ثلاثة شبان جالسين حول طاولة صغيرة. وكانت صديقتي تصور ما يجري. لا أذكر سؤالها على وجه التمام ولكن أحد الجالسين بدأ الكلام بالقول صرلنا هون من 19 يوماً، اعترض زميله، فحاول تصحيح الرقم بالقول تقريباً. عاد الزميل إلى احتجاج مرير قائلاً "ما هيك بيحكو، ما فيك تحكي هيك قدام الكاميرا". طمأنتهم صديقتي أنها لا تصور من أجل قناة تلفزيونية. بعد أخذ ورد استلم دفة الكلام شاب، وبدأ يتكلم عن السلمية وجمال ما يجري. وفي فصل كلامه الأخير بدأ يتكلم عن السيستاني في العراق ثم بدأ يقول "لا أسمح بشتم السيد نصرالله لأنو لا أريد (المتكلم وليس السيد) قطرة دم". وتابع "افترضي أن المتظاهرين في صور بدأوا يشتمون جبران باسيل، وأحد الجنود مسيحي، ولم يهن عليه الموضوع، قد يفتح النار على الجمع". وفي الأثناء اقتربت شابة من المجموعة، وهي تمسك بكيس مكتوب عليه "توترز"، تطبيق خدمة توصيل الطعام، سألتهم الشابة "بدكم مناقيش"، ولم تنتظر رداً وناولت مناقيش للشاب الذي اعترض في بداية الدردشة على عدم دقة زميله، ومضت في طريقها. ثم علا صوت على بعد خطوات صغيرة، أمام الأسلاك الشائكة التي وضعت على الطريق المفضية إلى السرايا الحكومي، وصار الشاب الذي لن يسمح بالشتم وزميلاه يقولان "ضربه على عينه وهو يضع الحديد على يديه". رأيت شاباً منقبضاً من الألم يستر عينه بيده، والجاني، شاب منتش ومزهو بنفسه على معصميه ما يشبه سوار فيه حديد ناتئ. اقترب الشاب محدثنا عن "ديموقراطيته" البديعة من المعتدي وطالبه مثلما فعل زملاؤه بالرحيل. لا نريد ضربة كف. اعترضت صديقتي قائلة "ولكن يجب محاسبته على ما فعل وتسليمه إلى القوى الامنية". تركوه يذهب، وطلبوا الصليب الاحمر. وفي كل هذا، كان الشباب المارين والجالسين ينصحوننا بعدم الذهاب إلى الرينغ، ليش سألنا، قالوا في اشتباكات.

نظرت صديقتي إلي، وأصرت على التوجه إلى الرينغ. وعلى الرينغ، مقابل برج الغزال، وجدنا تجمعاً من الشابات والشباب. وقفنا إلى جانبهم. وعلى خلاف تجمع ساحة رياض الصلح، كانت الشابات كثيرات العدد. وبدا الجمع وكأنه يحتفل غير آبه بشائعات الاشتباكات التي ربما لم تبلغه، وغير آبه بانقضاض "شباب الخندق" بالعصي على تجمعهم في اليوم السابق.

الشابات في الصدارة
الشابات كن الهاتفات الرئيسيات، وبدا الشباب كومبارساً، وواحدهم كان نزع قميصه وراح يرقص على وقع هتافات شابة من الشابات: "استقيلو استقيلوا هيدا العهد بدنا نشيلو. استقيلو استقيلو.ميشال عون بدنا نشيلو. استقيلو استقيلو/الحرامي بدنا نشيلو/هيدا المجلس بدنا نشيلو". ثم بدأت بالغناء: "يا محلا ثورة تشرين. سقطنا الحكومة. سقطناها للحكومة بهمتنا القوية [تحية إلى القاشوش]، ويا محلا ثورة تشرين. ويا محلا ثورة تشرين، لغينا الطائفية وشبح الحرب الأهلية ويا محلا ثورة تشرين. ويا محلا ثورة تشرين. ما لح نرضخ للتهديد وما لح نرضخ للتهديد ويا محلا ثورة تشرين. ويا محلا ثورة تشرين ويا محلا ثورة تشرين".

وكانت الشابة الهاتفة تبادر إلى غناء اغنية على لحن تهويدة "مونامي بييرو" mon ami Pierrot، حين علا صوت شابة أخرى مع عدد من الشابات "ثوار أحرار بنكمل المشوار". وواصلت الهاتفة البارزة وواكبها الجمع: "أوكلير دو لا لون، الشعب ما بدو. سقطنا الحريري وبعد في غيرو، ويا حكومة طيري / الشعب ما بدو. في غيرو (يصرخ شباب كمكمل للأغنية). وأعاد الجمع لازمة الاغنية "سقطنا الحريري وبعد في غيرو"، وكأنها ايقاع حلقة زار أو أغنية راب. "بعد في غيرو، بعد في غيرو، بعد في غيرو". وبدأت الشبابة هتافاً: "سقطناها للحكومة" وردت المتظاهرات والمتظاهرون "سقطناها للحكومة، ويا محلا ثورة تشرين... حاج تقولو مدعومين / عن مطالبنا مش ساكتين/ عن مطالبنا مش ساكتين. قلتو لح نزهق ونفل/بس نزلنا بالملايين /طيرنا أول سراق/ وطيرنا أول سراق./ والدور جايي عل باقيين/ والدور جايي عل باقيين...". ثم بدأ شاب بالهتاف: "28 ومية، كلن قرطة نصابين... كلن قرطة حراميي... يسقط يسقط حكم الأزعر/نحنا الشعب الخط الأحمر". ويبدو أن هتاف يسقط حكم الأزعر هو من بنات يسقط حكم العسكر في ثورة يناير المصرية في 2011.

وهتفت شابة أن الشباب من جل الديب قادمون لدعم المتظاهرين على الرينغ. وأمام خيمة بالقرب من بنك عودة والرواق الصغير المفضي إلى "فيلاج صيفي"، جلست شابة تقول لماذا سيأتون، سيهتفون بالتأكيد تأييداً لجعجع وهذا ما لا أريده. هذه الثورة متنوعة ومش لحدا، وهون هيك شي ما بصير. وكأن الرينغ صار بالنسبة إليها شارع الحمرا الجديد وهي من رواده، ولكن رحابة ذلك الشارع التي تتغنى به انتقلت هذه المرة إلى الأشرفية التي سبق أن أُخذ عليها في الحمرا "انعزاليتها". قلتُ لها ولكن كيف تعرفين أنهم سيفعلون ذلك. الحرب انتهت منذ سنوات وثمة جيل لم يعرفها ولم يقاتل في صفوف القوات. وبدا أن ما أقوله رتيب ولا يتناسب مع جو لا يشوبه تشنج في تبادل الكلام والأفكار. فعلى سبيل المثل، في اليوم التالي، اقترب شاب من آخر بدا أنه من المنظمين- وهو شاب جميل الوجه شعره مجعد في مطلع العشرين من العمر، كان يضع يديه على خصره ويرتدي مئزراً يشبه مئزر السترات الصفر ولكنه بدا أقرب إلى ربة منزل في مطبخها- وقال محتجاً هناك شخص يشرب البيرة. فرد "ولكنك بالأمس كنت تدخن النرجيلة ولم أقل لك شيئاً مع أنني وجدت الأمر قبيحاً". فأجاب الشاب ولكنني توقفت عن ذلك حين طُلب مني حفاظاً على "صورتنا". قالت شابة "يستطيع أن يشرب البيرة فنحن من محلات (أوساط وعادات) مختلفة ومتنوعة". فمضى الشاب المعترض ممتعضاً وقابلاً لما قيل.

كانت الساعة بعد منتصف الليل، وكنا نبحث عن "دكان" لشراء السجائر. لم نجد غير المتجر الصغير الملحق بمحطة البنزين بعد كنيسة مار مارون. في المتجر، انتظرت صديقتي دورها، ثم طلبت علبتين من السجائر. رفض البائع قائلاً غير مسموح لي ببيع أكثر من علبة لأنها "مقطوعة". فسألها الشاب الواقف وراءها منتظراً دوره، "شو عم بتدخني هل إيام، وأنا كمان بدي علبة". وضممت صوتي إلى صوته، قائلة وأنا أريد علبة كذلك. فأعطاها البائع علبتين. وشكرت الشاب.
(يتبع)