طرابلس: "سوق القمح" صالحةٌ للعمل

صهيب أيوب
الجمعة   2015/05/22
يتفاءل "الساعاتي" علي تامر بإعادة ترميم السوق لكنه يأسف لتحولها الى سوق للألبسة (باسمة الغش)
تسقط شمس الظهيرة حارقة في باب التبانة، فيتبرد سائق التاكسي بشرب كوب من عصير التوت، وهو يشتم في هباء الشارع المارة المستعجلين بأغراضهم، عابرين بأجسامهم المتعرقة الى شارع سوريا وسوق الخضار، وهم يستوقفون سائقين أنهكهم الجلوس وراء المقود منذ الصباح.


يعتمد السائق الستيني الذي يسكن في شقة داخل حي "ستاركو"، على زبائن "سوق القمح" الخارجين بأكياس سوداء محملة بالثياب والحبوب والادوات المنزلية. يتذكر بدايات عمله في السوق مع عمه الحاج ماهر جنيد في بيع الحبوب، "حيث كانت السوق سوقاً"، يقول وهو يحرّك يده مستهزءاً بما آلت اليه أوضاع المحال التي تغيرت وظيفتها بفعل الزمن.

عمل الرجل بائعاً للحبوب مذ كان فتى الى حين زواجه، محولاً عمله الى سائق سيارة أجرة بين الملولة والتل والزاهرية مروراً بالقبة، "السوق تضررت بسبب الحروب التي عاشتها التبانة والجبل"، يروي وهو يركن سيارته امام دبابة عسكرية، "هنا كانت بوابة كبيرة تغلق السوق"، ويضيف بصوت خفيض "كل الباعة تغيروا وأجرّوا محالهم منذ وصول "ابو عمار" (ياسر عرفات) الى طرابلس"، يقول وهو يشغل فمه بسيجارة.

تنزل سيدتان من السيارة أمام نزلة العمري، التي تؤدي طريقها المحاذية للمقبرة الى حي الاميركان. تنظران بدهشة الى جمع من الشبان يرتدون بزات مخطوط عليها "مجلس شباب التبانة". تسألان بحشرية عن الورشة الحاصلة امام واجهة السوق، فيجيبها فتى يحمل بيده كوزاً من بوظة مثلجة، انهم ينشئون حديقة صغيرة هنا.

تتسلل السيدتان بخفة بين الفتيات اللواتي تطوعن لمساعدة الشبان لانجاز وسطية صغيرة، ستكون الانطلاقة الأولى لمشروع ترميم واجهات المحال وسقوفها والأرصفة في السوق التي تعرض بعض مخازنها ومحالها، في جولات العنف الـ21 المتتالية، للحرق. فتحول بعضها الى ثكنة لجنود الجيش في مواجهة المجموعات المسلحة على محاور النزاع في التبانة.

سيعمل المشروع الذي يموله برنامج "تعزيز قدرات المجتمعات المحلية في لبنان"، وفق رئيس مجلس "شباب التبانة"، خليل القبوط لتحويل السوق الى مكان مناسب للعمل والتجارة وسيتم تأهيل أرصفتها ودهن محالها بلون موحد، وترميم ابوابها الخشبية العالية "وسنعمل على ترصيفها وبعد ذلك سنطلق مع بداية رمضان حركتها عبر أنشطة رمضانية عديدة من أجل تنشيط حركتها قبل العيد، واستعادة بعض من تألقها الذي خسرته في الحروب المتقطعة التي شهدتها".

يستذكر علي تامر، اقدم "ساعاتي" في السوق، الذي فتح محله قبل طوفان نهر ابو علي في العام 1955، تاريخها "المتنوع" ببائعيها وتجارها المسيحيين والعلويين، الذين اغلقوا محالهم بعد دخول ياسر عرفات طرابلس، وإقامته في الزاهرية. "تركوا السوق وباعوا محالهم للغرباء"، يقول وهو يدل على المحال التي شغلها تجار من آل بربر وعنتر وخوري وابراهيم والياس، وعائلات يهودية فتح بعضها محالاً في سوق القمح "التحتاني"، الذي لا زال على حاله من آل شعيا وسلميان. "كنا نقوم كلنا في حي السيدة الملاصق للسوق بكنس وشطف الكنيسة ايام الآحاد بعد ذهاب المصلين، وكنا نساعد في تربيع الجرس ونغلق الكنيسة بأنفسنا، وكان الخوري ابراهيم يمون على جميع التجار حيث كان يصلح البان بينهم". ويضيف وهو يحاول ترتيب جلسته على كرسي بلاستيكي، "كنا في ايام المولد النبوي ننام كلنا صفوفاً امام المحال ويعبر الحصان الذي كان يقال انه حصان الرسول فوق ظهورنا. كانت ايام حلوة فيها تعايش، وكانت السوق تضم 22 موقفاً للسيارات تنطلق إلى قرى وبلدات الضنية والمنية وعكار وبشري وزغرتا والى سوريا".

يتفاءل الرجل بإعادة ترميم السوق، لكنه يأسف لتغير دورها، حيث تحولت محالها التي كانت تفوح برائحة العطارة والحبوب بكافة انواعها، الى محال للألبسة. وحافظ بعضها على هوية هجينة، اذ اصبحت تتقاسم زواياها اغراض بلاستيكية صينية الصنع ومواد للجلي والتنظيف.

"كانت سوقاً للقمح وفيها بعض محال لتصليح الساعات، ومحل صيرفة". ويضيف: "تضم السوق مطاعم عربية تبيع المأكولات الشرقية من لوبياء بالزيت وفول ومسقعة وحمص ولحم مشوي ورؤوس نيفة مشوية، واشهر هذه المطاعم كان لعلي يوسف ديب، الملقب بابو حلقة، ورجل يسمى الحاج حمدو من حماه، كان لديه ملحمة ويضع كراسيَ للزبائن خارجها. وكان هناك محل لبيع الاسلحة والبارود والخردق لشخص من آل السيد. كل شيء تغير. صارت السوق مكاناً للتسوق السريع".

يتشارك عمر الأعسر، الذي عاش طوال حياته في السوق، بعد تركه التعليم الابتدائي وتفرغه لمحل والده واجداده المخصص لبيع السمانة والمواد الغذائية، ذكريات السوق مع العم علي: "تركت عائلات برجوازية عديدة من آل جنيد والفوال والعكاري والمكاري والافيوني والعثماني محالها، وتحولوا الى بائعي جملة وبعضهم من اقلع عن مهنته. ومنهم من أورثها الى احفاده، ولم يعد يملك نفساً ليكمل ما اسسه الاسلاف. فالسوق في آخر ايامها"، الا انه يأمل أن تكون هذه الخطوة لاعادتها الى الحياة.