لبنان: حلّ خارجي تقسيمي على شاكلة الكوريتين والألمانيتين؟

نبيل الخوري
الأربعاء   2022/01/05
لا يمكن تحقيق أي تغيير إلا بواسطة دور خارجي (Getty)

ثمة انطباع بأن حل أزمة لبنان لن يأتي إلا من الخارج. لكن أي حل وأي خارج؟ هل يقتصر الأمر على مؤتمر لبناني-لبناني برعاية دولية وإقليمية لإعادة إنتاج تسوية طائفية جديدة؟ أم أن تدهور الوضع سوف يؤدي إلى استحضار سيناريو قد لا يستسيغه البعض؟

خريطة القوى الخارجية المؤثرة في لبنان اليوم وأشكال تدخلاتها غير البنّاءة، لا تسمح بالذهاب بعيداً في تقدير نواياها بشأن اليوم التالي. إيران، بواسطة حزب الله -كميليشيا وكقوة إكراه- تبسط نفوذها على قسم شبه محدد ومترابط من الأراضي اللبنانية. تمارس سلطتها على قسم من الشعب اللبناني. بات لديها إذاً ما يكفي من العناصر اللازمة لتأسيس دولة قائمة بذاتها. لكن تعاملها مع الأزمة اللبنانية الراهنة ومع الانهيار وتداعياته توحي بأن الحل، أي حل، لا يمثل أولوية لديها ولدى حليفها حزب الله. كأنهما يفضلان التأجيل والاكتفاء الآن بإدارة مناطق سيطرتهما.

في المقابل، يمتلك الغربيون قنوات نفوذ عديدة في لبنان. مصدر سلطتهم وتأثيرهم الأساسي يتمثل اليوم في امتلاكهم قدرة التمويل، في وقت يبدو فيه لبنان بأمسّ الحاجة إلى برنامج مساعدات وتمويل. ويكاد اهتمامهم ينصب بشكل أساسي على دعم المنظمات غير الحكومية والإنسانية والإغاثية التي تؤدي دوراً فاعلاً في إدارة الانهيار اللبناني، وعلى الجيش اللبناني -كقوة إكراه أيضاً- لضمان الاستقرار. لكن على المستوى السياسي، ثمة إرباك غربي حيال الملف اللبناني. مطالبهم لا تتحقق. من سلاح حزب الله إلى الإصلاحات. ولا يبدو أن لدى الغربيين استراتيجية منسجمة للتعامل مع لبنان الواقع نسبياً تحت السيطرة الإيرانية، ولتحقيق مطالبهم. فيكتفون بأدوار وأفعال محدودة، تنحصر وظائفها بإدارة الانهيار.

شرط القبول الشعبي
رغم حالة اللامبالاة الإيرانية والمحدودية الغربية، تبقى الحقيقة المؤسفة أن التغيير في لبنان هو رهن تدخل قوة خارجية قادرة على فعل الفعل والحسم وإنتاج حل دائم. بمعنى آخر، يجب الانتقال من حالة التدخلات الخارجية التدميرية إلى تدخل بنّاء.

سيناريو كهذا يتطلب بالطبع أن تحظى تلك القوة الخارجية بقبول شعبي. أي أنْ تتدخل في ظل بيئة شعبية ملائمة، واعتقاد الناس أو قسم كبير منهم، بأن هذه القوة لا بد منها للانتقال من مرحلة الانهيار الاقتصادي ودمار المالية العامة وتحلل مؤسسات الدولة وتدهور أوضاع الخدمات العامة... إلى مرحلة إعادة البناء. أي بناء نظام جديد، قد لا يكون مثالياً وقد لا يختلف كثيراً عن الوضع السابق، لكن أن يكون هناك نظام ومعايير تُشعِر الناس ولو بذرّة من الطمأنينة وبحد أدنى من الاستقرار.

دور الخارج بتغيير المعادلات تاريخياً
في ظل حالة الاستعصاء الداخلي وعجز الأطراف الداخلية عن إنتاج حل، لا يمكن تحقيق أي تغيير إلا بواسطة دور خارجي كهذا. تماماً كما حصل اعتباراً من عام 1920، عندما فرض الجيش الفرنسي مساراً سياسياً جديداً في لبنان، عنوانه إنشاء دولة لبنان الكبير، مع كل عوراتها المزمنة. وكما حصل عام 1943، حين فرضت القوة العسكرية البريطانية (بعد هزيمة جيش حكومة فيشي الفرنسية في المشرق عام 1941)، تغييراً سياسياً اتسم بوضع حد للهيمنة الفرنسية على السلطة في لبنان، وحصول الأخير على استقلاله، ودخوله مرحلة جديدة من التعايش السياسي بين الطوائف.

"المارينز" وشهاب عام 1958
انتكس هذا التعايش عام 1958، ولم يتم تجديد الصيغة، المنبثقة من الميثاق الوطني، إلا بواسطة القوة العسكرية الأميركية. فقوات "المارينز" رعت تسوية أوصلت الجنرال فؤاد شهاب إلى رئاسة الجمهورية. وخلال عهده، حاول تحديث الدولة وبناء دولة القانون والمؤسسات. رغم كل ما يمكن أن يقال عن السياسة الخارجية الأميركية وانحياز واشنطن بشكل أعمى لصالح إسرائيل، إلا أن التدخل العسكري الأميركي عام 1958 ساهم بإنتاج حل دولتي. وهذا الحل حافظ على القدرة التشغيلية للدولة مع اتجاه تحديثي كاد ينجح في بناء دولة قوية وحديثة على أنقاض دولة المحاصصة والنفعية والزبائنية والمغانم والفساد...

كمال جنبلاط.. وبشير الجميّل
حتى خلال الحرب الأهلية، تشير كل التجارب إلى أن المعادلات السياسية كانت أو كادت تتغير بواسطة قوى عسكرية خارجية. فالتغيير السياسي الذي كاد كمال جنبلاط أن يحققه مع الحركة الوطنية واليسار، كان سيتم في ربيع 1976 بواسطة القوة العسكرية الفلسطينية. إحباط هذا التغيير تحقق بواسطة القوة العسكرية السورية.

كذلك، التغيير السياسي الذي كاد بشير الجميل أن يحققه مع الجبهة اللبنانية واليمين، كان بدأ تنفيذه في صيف 1982، بواسطة القوة العسكرية الإسرائيلية، لولا اغتيال الجميل إثر انتخابه رئيساً للجمهورية. هنا، في هذه اللحظة التاريخية، حاول الأميركيون بواسطة "القوات المتعددة الجنسيات"، التدخل لإعادة بناء نظام سياسي حليف للغرب، لكن الشروط المحلية لم تكن تسمح بتفعيل أي حل دولتي. فالدولة كانت ضعيفة ومتهالكة مقابل تصاعد قوة المليشيات؛ كل المليشيات، المسيحية والدرزية والسنية والشيعية واليسارية.. ووجود رئيس جمهورية غير توافقي كأمين الجميل، صعّب المهمة. فاستسلم الأميركيون في المحصلة لحافظ الأسد الذي أمسك من جديد بالورقة اللبنانية.

"الحل" السوري
هكذا، فُرضت معادلة سياسية جديدة، عنوانها اتفاق "الطائف"، بواسطة القوة العسكرية السورية. لولا هذه القوة، المدعومة من قسم من اللبنانيين، والمستفيدة من ضوء أخضر عربي وخليجي، وموافقة ضمنية أميركية وغربية، لما "نَعِمَ" اللبنانيون بتلك الهدنة الهشة التي دامت من سنة 1990 حتى عام 2005. لكن "الحل السوري" لم يكن حلاً توافقياً لأنه أعطى الغلبة لزعماء الحرب المسلمين مقابل تهميش زعماء الحرب المسيحيين. ولم يساهم في بناء دولة قوية ومتطورة، بل دولة هشة و"مزرعة" يحكمها تحالف أمراء الحرب والمتمولين الكبار وفق أسوأ أساليب الفساد والنهب.

التعطيل والفوضى
منذ العام 2005 وخروج الجيش السوري، دخل لبنان مرحلة من عدم الاستقرار السياسي (والأمني أحياناً). مرحلة تعطيل عمل مؤسسات السلطة بسبب الصراع على تقاسم مغانم الدولة بين حلفاء سوريا وإيران من جهة وحلفاء السعودية والغرب من جهة ثانية.

نتائج هذا الصراع تدميرية. عندما يشتد، تتعطل الدولة. وعندما يعقد أطراف الصراع تسويةً، كما حصل عام 2016 مع ما يعرف بالتسوية الرئاسية، لا يتمخض عن هذه التسوية مشروعاً دولتياً ولا عملية تحديثية للدولة اللبنانية. بل عملية فساد مفرط ونهب غير مسبوق للمال العام والخاص.
منذ العام 2019، وصل الجميع إلى حائط مسدود مع الانهيار الاقتصادي والمالي والاجتماعي. وحلّت الفوضى. فالخارج لم يعد مستعداً لتمويل دولة المحاصصة والمغانم والفساد من دون تنفيذ إصلاحات دولتية شاملة. أما المصارف، فاستنزفت ودائع ومدخرات الناس لديها، من خلال تمويلها تلك الدولة، دولة الصفقات والعمولات والنهب، في تواطؤ مشبوه بين مالكي المصارف والسياسيين.

المأزق
ثمة مأزق سياسي كبير اليوم في لبنان. لا يوجد أحد قادر على حكم هذا البلد. كل القوى الداخلية تبدو عاجزة عن طرح وضمان تنفيذ مشروع جديد لتشغيل الدولة والنظام. القوى التقليدية هدفها الأوحد والوحيد يتمثل في إثبات الوجود والبقاء، لا لأنها تحمل مشروعاً دولتياً إنقاذياً، بل لأنها تأمل في إعادة إحياء نظام المحاصصة والمغانم والنهب، خصوصاً إذا بدأ استخراج النفط والغاز. أما القوى المنبثقة من انتفاضة "17 تشرين"، فهي تحاول بدورها إثبات وجودها لكنها لم تصل بعد إلى مستوى خوض الصراع على السلطة والتأثير في ميزان القوى.

هل يبادر الخارج؟
أمام انسداد أفق كهذا، وحدها قوة خارجية ستكون قادرة على إخراج لبنان من هذا المأزق وإيجاد معادلة سياسية جديدة وتوفير ضمانات لها. لكن من سيفعل ذلك وكيف سيحصل؟ هل سيكتفي الغربيون بجعل لبنان "جمهورية منظمات غير حكومية"، أم سينتقلون من مرحلة إدارة الأزمة إلى مرحلة المبادرة، وتنظيم تدخل منسجم وحاسم يهدف إلى إنتاج وكفالة حل سياسي دولتي، يوفّر الاستقرار وشيئًا من الازدهار؟

وإنْ أرادوا فعل ذلك، هل سينجحون في قلب ميزان القوى لصالحهم؟ أم سيكون هناك اتجاه لتقسيم لبنان بين "دولة" موالية للغرب والخليج و"دولة" موالية لإيران؟ أي وفق سيناريو مشابه لما تسببت به الحرب الباردة في بعض المناطق الساخنة، فتولد دولتان على شاكلة كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية أو ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية؟
وفي هذه الحالة، هل ستقبل إسرائيل بوجود "دولة" حليفة لإيران على حدودها؟ أم ستكون هذه "الدولة" في حالة حرب دائمة؟ وهل ستقبل إيران بحل كهذا أم أنها ترتاح للستاتيكو السابق أو لواقع الانهيار الحالي، اللذين يتميزان بتفوق حزب الله؟

حسابات الغرب
بالطبع، يصعب على الغرب تبني وصفة حل تقسيمية، إذا نتج عن ذلك تفرّع دولة فاشلة إلى دولتين فاشلتين. سيكون المشروع بلا جدوى في هذه الحالة. وهذا ما يفسر على الأرجح دوافع اكتفاء الغربيين بإدارة الانهيار والتفاهم مع إيران على حد أدنى من الاستقرار الأمني. لكن هذا لا ينفي الحقيقة المرّة المتمثلة في أن حل الأزمة اللبنانية مشروط بتدخل خارجي بنّاء، وبوصاية أو وصايات خارجية، يُراد منها تحفيز وتحقيق حل دولتي، كبديل عن التدخلات الخارجية التي جعلت لبنان مسرحاً للمليشيات وللمنظمات غير الحكومية. وكلفة حل خارجي كهذا ألن تكون أقل بكثير من الثمن الذي يدفعه اللبنانيون في هذه اللادولة المفتوحة على كل أشكال التدخلات غير البنّاءة؟