بترول إيراني: فيدرالية الحاجات

أحمد جابر
الإثنين   2021/08/23
لن تنفع صرخات الرفض في مواجهة استفراد كل جهة أهلية (Getty)

بترول من إيران. نبأ أعلنه أمين عام حزب الله، وشّرَحَه بما يراه هو، من أسباب سياسية موجبة، وبالحلّة المنبرية اللازمة، لشدّ العَصَب "الحاضن"، ولتنبيه الخصم المستكبر العالمي، ومعه العدو الاسرائيلي، من ارتكاب خطأ اعتراض "الأرض اللبنانية" العائمة.

تلقّف "الأهليون" النبأ، فَتَبَاروا مَدْحَاً وذَمّاً، وتَبَارَزُوا استقلالاً وسيادة، ومقاومة وعنفواناً. وفي مقام الصدق مع الذات، لم يَتَنَكّر "الأهليون" لعاداتهم المستدامة العلنية، فتكاذبوا "دولتياً"، وتباكوا "جمهورياً"، وفي الخفاء، فَتَحَ كلّ "أهليّ" دفتر الربح الشخصي، وقام بمراجعة لاحتمال الخسارة، وبنى كلماته وشَرْحَه ونَبْرَتَه الخطابية.. على مادّة التجارة السياسية الفئوية الخاصّة.. الدنيئة. كلّ ذلك، جرى، ويجري، في سياق الدناءَة العامّة، التي تُقرّرِها وتُهَنْدِسِها وتُنَفّذِها، تشكيلة الحاكمين والمتحكّمين، الرخيصة، وطنياً وسياسياً واجتماعياً، وعلى كلّ صعيد.
الواقع الملموس المُشار إليه، يؤطّر جَمْعَ "الأهليون"، والقراءة في قراءة كل صُنْف مفرد أهلي، كفيلة بجلاء سمات السطور المُتَبَادَلَة، وكفيلة بتبيان ركاكة ادعائها السياسي، التي لا تَحْجِبُها المُحَسّنَات اللفظية البلاغية.

اختلاط المعارضات
حتى الآن، لا تتوفر كلمة معارضة، متكاملة الشروط، لطرف أو لمجموعة من الأطراف. غياب الكلمة وشروطها، يطاول البُنى الحزبية السياسية، ذات المنشأ المعارض، أو بقول أدقّ، تلك الحزبيّات التي حَمَلَتْ لواء تغيير النظام اللبناني القائم، تغييراً شاملاً، ويطاول أيضاً، المجموعات "المُدُنيّة"، ذات النَشْأَة المحليّة، بشرياً، وذات البرامج الإسقاطيّة، في مُعْظمِها، ممّا يجعلها خارج بيئتها، طرحاً وعلى صعيدي الثقافة والممارسة.

الغياب أعلاه، قَصَرَ الاعتراض على أهل النظام المُتَآكِل، فصار الخطاب بَيْنِيّاً، وصار ملعبه مقفلا جٌوّانِيّاً، وهذا من دواعي تسهيل الكلام، ومن دواعي استسهال اختصار فَحْوى المعارضة، ومن أسباب تردّي الحالة الشارعيّة، وجَعْلِها أسيرة إصبع أهليّة من هنا، وصوت أهليّ من هناك. هذه الحالة "المعارضاتية"، تكون مفهومة من قِبَلِ المُنَدِد، ومن قِبَلِ المُنَدَّد به. وكل "زجل أهليّ" مسموح، ما دام مفهوماً، ومادام ملتزماً إيقاع النَقْر على الدفّ، ومادام هدفه نَيْل استحسان وتصفيق الجمهور. داخل حلقة الأهليّات الطائفية والمذهبيّة، بات الكلّ يفهم الكلّ، فهذا من سياسة التفهّم، كذلك بات كل طرف حريصاً على حدود الانتظام ضمن الحلقة، والالتزام بشروط الانتظام داخل إطارها، فإن حَصَلَ نَشَازُ "شَرْطِي" فَرْدِي، أخذه الآخرون على معنى الخطأ غير المقصود، أو على معنى الطموح غير المحمود، والأمران لا يُفْسِدَان في وِدِّ الانتظام قضيّة.

عليه، ما حال المُنتَظِمين في اعتراضهم الرسميّ؟ وما حال اللامنتظمين في بَحْثهم عن اعتراض منظّم؟.

بالجملة
يعتمد بعض من فريقي الاعتراض، الرسمي والشعبي، أساليب المزايدة السياسية، عندما يتعلَّق الأمر بعدد من العناوين العامة، كمثل السيادة والاستقلال والتحالفات الخارجية. ويفترق "البعضان"، عندما تُعْرَضُ في سوق السياسة عناوين تستهدف أُسُس النظام الطائفي، وشعارات تعتمد تحديد المسؤوليات عن فشل الحكم، وتشير إلى قوى تعطيل قيامة الدولة المدنية الحديثة، وما إلى ذلك من ملحقات.

بعضان آخران، من فريقي الاعتراض، "يناقصان" على "المسائل" العامّة، وعلى "القضايا" الفرعية الخاصة، والأشدّ خصوصية. في حالتي المزايدة والمناقصة، الغائب هو وصف الواقع الحقيقي، والمُغيّب هو معاينة الحالة الأهلية، في يومياتها الواقعية. في هذا السياق، تندرج مسألة الخلاف حول ناقلة النفط الإيرانية، ومسألة العلاقة مع الدول العربية وغير العربية. ومما يجدر الانتباه إليه، هو استحضار كامل الخطاب المنحاز، إيرانياً أو خليجياً، أو شرقياً أو غربياً، ومن ثمّ تنظيم هجوم "استراتيجي" شامل، ردّاً على الاشتباك الموضعي المحدود.

يُقال، وعن حقٍّ، إن المعركة سلسلة مترابطة الحلقات، وعليه، فإن الآني يجب أن يُنسب إلى الآتي. ماذا يعني ذلك؟ في التفسير: يقتضي ترابط الرؤية وجود خطّة شاملة لدى الطرف "المُشْتَبِك"، وفي حالتي الدفاع والهجوم، والسؤال: ما خطّة هذا الطرف؟ وهل هي موجودة في الأساس؟ الجواب تُقَدّمُه اليوميات، وهذه تُفِيدُ أن الاصطفاف الثابت له عنوان واحد، وعماده خطة من بند واحد، وهذا وذاك تختزلهما كلمة الهجوم على كل ما يأتي من جهة الخصم، من دون تمييز بين سلبي وإيجابي، ومن دون إخضاع الوافِد إلى دروس السياسة، وإلى صياغة الخطط الفرعية التي تتعامل مع المُعطى الاجتماعي، بكلّ تجليّاته، ككائن حيّ وحيوي، تقتضي معاينته في حركته الواقعية الدائبة. سياسة المناقصة والمزايدة، وعلى ألسنة مُمَثّلِيها، شعارها: "لا يأتي من الغرب خَبَر يَسُرُ القلب"، والغرب هنا ليس جِهَة، فهو شرق سياسي، وشمال سياسي، وجنوب سياسي، أمّا الجغرافيا، فَمًدَى التحاق، أو استتباع، لكل ذي هوى محليّ، يُشْرِعُ رئتيه لهواء ولأهواء الآخرين.

باسم بناء الجمهورية
بعيدا من الاسترسال في الشرح، يكفي الإيجاز مؤونة للوضوح. إيجازاً، ما هي الحاجات اللبنانية الراهنة؟ كوسيلة اختصار، من المُجدي تصنيفها في باقتين، حاجات عامّة رسمية، وحاجات أهلية عمومية.

على صعيدٍ عامٍ، يَلْهَجُ الجمع باسم بناء الجمهورية، وبعد كل خطبة عصماء، نقع على ما يخالف أوّليّات البناء الجمهوري. لا استثناء في هذا المضمار لأحد، فكل "جمهوري" يتحدّث وفي ذهنه جمهوريته هو، في القبض على قرارها، وفي رَسْمِ وجهة سياساتها، وفي طلاء وجهها السياسي، وفي تعيين عمقها المرجعي، في المحيط القريب، وفي الأفق الأبعد والبعيد. لا تنْجو من هذا الطموح الجمهوري، لا الثنائية الشيعية، بقيادة حزب الله، ولا الثلاثية المسيحية التي يتقدمها العوني، القواتي، ولا الرباعية السنيّة، التي صارت برؤوس متعدّدة.

هؤلاء الجمهوريون جميعاً بَنَوْا فيدرالية نزاعاتهم السلطوية والتسلطية، وهم يَتَفَرّقون عند كل حَدَث يومي، منقادين إلى هدف تَثْقيل أوزانهم في غُنْم الدولة، التي تناقصت حتى باتت على حَافّة الاضمحلال، وينطقون يوميّاً، بما يعتبرونه وسيلَة لبلوغ هذا الهدف، لذلك تجتمع منابرهم على اتهامات التخوين والإقصاء والعزل، أمّا سلاح اللغة، فتارة لبنانية ضاربة في التاريخ، ترفدها حضارة ستة آلاف عام! وتارة مقاومة متجذّرة في وجدان طائفي، يدعمها خطاب يجعل القتال "جينياً" بحيث يولد الطفل ويولد شوقه إلى القتال معه! وطوراً عروبة-إسلامية، تعتاش من زادِ القبيلة أو من مجد الدين الذي استحوذت عليه القبيلة.. أولئك الجمهوريون، نَفَوْا الحاجة الجمهورية، وأسقطوها، ثمّ اكتفوا بما تَبَقّى من فيدرالية حاجات مطامح مضبوطة، ومناكفات مدروسة، وعلاقات تنظّم نزاعاتهم البّينِيّة المدروسة. تلك هي حال الرسميين، الذين تختلف نظراتهم إلى تأمين حاجاتهم، وتأتلف مقارباتهم لضرورة صيانة الحاجات، كحاجات، وإلى ابتكار الوسائل التي تربط النزاع حول كل شيء، إن اقتضى الأمر، لكن من دون المسّ بنمط إدارة الحاجات الفيدرالي.

على صعيد الحاجات الشعبية العمومية، يكفي القول، إن صفّاً واسعًا من الجمع الأهلي قد ارتدّ إلى مستويات حياتية، تكاد تلامس حالة طَلَب الكفاية "البيولوجية"، هذه التي تقتصر على الأكل والشرب واللباس. هي حالة مزرية، وما يفاقم من شدّتها، العجز الفادح عن مواجهتها، وعن التصدّي للتشكيلة الفاسدة المتسلّطة، التي أوصَلَت الناس إلى ما هم عليه. في ظلّ هكذا وضْع، حيث المطروح كيفية النجاة من الغرق في العَوَز القاتل، هل يفيد الحديث عن القمر، أم من المفيد الحديث عن رغيف كالقمر؟ فإذا استرسلنا في ذكر الحاجات، هل من الأجدى الدعوة إلى تأمينها، أم الدعوة إلى رفض استلامها بدعوى مخاصمة من بادر إلى توفيرها؟ الجواب عند الناس، اسْتَفْتُوهم، وخُذُوا العِبْرَة من نتائج الاستفتاء.

وعلى هامش التباكي على الدولة، والتصرّف بقرارات هي من صلْب اختصاصها، هل وصل إلى عِلْمِ البَكّائين، خبر تخزين المواد الغذائية من قبل هذا الحزب وذاك وذلك، استباقياً؟ لقد حصل ذلك في ظل شعار، لن تجوع منطقة فلان، ما دام بيت زعيمها التاريخي موجوداً؟ هل كان التخزين تصرّفاً خاطئاُ؟ والأهمّ، هل كان موضع رفْض شعبي؟ الجواب معروف.

هذا المثل التخزيني، وما يجاريه، لدى كل الطوائف، كان خطوة أولى على طريق فيدرالية الحاجات، وفي هذا المجال، ينبغي التذكير بشأن هذه الفيدرالية إبّان الحرب الأهلية، فتلك كانت تجربة تسمح الآن للبعض بالقول، لن تجوعوا.. نعم، لن يجوع أحد، فالموانئ موجودة، وأهل الرأسمال جاهزون، والقبول الأهلي مضمون. لن يجوع الناس، لكن ستَضْمُر الدولة لتصير هي حاجة ثانوية، في بنيان فيدرالية الحاجات.

خلاصة
لن تنفع صرخات الرفض في مواجهة استفراد كل جهة أهلية. تعاني تلك الصرخات من بحّة الاستقلالية، فصوت أصحاب البحّة مثقل بتحويلات الخارج، وكل مدْعوم موضع شُبْهَة. الداعم الإيراني، مثل الداعم السعودي، مثل الداعم الأميركي، كلّ منهم له خطّته الخاصة، وكلً خطّة تمويلية للفئويات، مشبوهة وذات غَرَض، هذا هو منطق السياسة. كذلك كل متلقٍّ لدعم خارجي، ومن أي صنف كان هذا الدعم، مشبوه هو الآخر. كل تنسيق مع الأجنبي، كل أجنبي، من فوق رأس المرجعية الرسمية، أو من خلف ظهرها، هو تعامل يعاقب عليه القانون.. لنا أن نلحظ، أن المأساة هي في سيطرة المدعومين على مؤسسات القانون، ولنا أن ندرك حجم الكارثة، عندما يصير مطلب الحصول على الدعم الخارجي، موضع ترحيب من قبل الجمع الموزع أهواء هو الآخر.. لا لشيء، إلا لأن المدعوم، الذي أغرق الجَمْع في عَتْمَة أزماته، صار، وإلى إشعار آخر، صاحب قرار تأمين الحاجات، وحارس ضائقة أصحابها.

ما حال الما فوق فيدراليين؟ لا حال لهم حتى تاريخه، ولا فِعْل يُذْكَرُ لهم، غير ذلك الذي يكرّر فقرات من اعتراض بعض المُتَذَمّرين من أهل النظام، مع إضافات، غير موفُقَة عموماً، يسْهُل تصنيفها في خانة الانحياز إلى كلام أطراف نظامية مختلفة.