عشرون عاماً مصرية على غزو العراق

شادي لويس
الأربعاء   2023/03/15
من التظاهرات في ميدان التحرير، وسط القاهرة، في الذكرى الأولى للغزو الأميركي للعراق (غيتي)

حين شرعت الولايات المتحدة في غزو العراق، لم يتوقع أحد أن تنتهي تلك النزهة الإمبراطورية إلى انسحاب مذلٍ وهزيمة سياسية فادحة لصالح الإيرانيين. لكن، وبما أننا نعرف تلك المحصلة اليوم، فقراءة التاريخ بأثر رجعي لا تتجاوز اللجوء لمنطق السرد، أي فرضية أن ثمة بداية ونهاية لكل شيء، وما يأتي أولاً يفسر ما يليه. إلا أن الحدث الواقعي في حينه وفي آنيته، لا يخضع لهذا المنطق المنمق ولا النسخ الرخوة من التفسيرات الاستنباطية للمؤرخين.

تسبغ الحبكة على التاريخ ألق المثالية، وعلى الحدث صفة الاكتمال والنهائية، وهكذا يلقى بثقل المعنى إلى المستقبل، بعبرة لها نكهة أخلاقية. أما حين انطلقت التظاهرات المعارضة لغزو العراق في ميدان التحرير، بوسط القاهرة، فلم يكن أي من هذا في الحسبان. كانت السياسة وحدها -كونها مستودع التغيير- ماثلة. في مقابل التاريخ، السياسة تعني الانخراط مع الآني وفيه، برهانات تفتقد للقدرة على استبيان النتائج ولا التبعات.

على ركاكته، اتسم مشروع "الفوضى الخلاقة" الأميركية بالكثير من الجدية، واستمدت تلك الجدّية وجودها من ردود الأفعال في العواصم العربية، لا من نوايا الإدارة الأميركية. ما صاحب الغزو، من عدم وضوح وتهور وتدمير عنيف وواسع وغير ضروري، زعزع بُنية السلطة الراكدة في المنطقة. شعر نظام حسني مبارك بتهديد وجودي، كان عنوانه "تغيير الأنظمة بالقوة". بدا وكأن المساومة القائمة بين واشنطن والقاهرة، منذ كامب ديفيد، قد فُسخت من طرف واحد. أمن إسرائيل والمصالح الأميركية في منطقة الخليج، في مقابل تأمين النظام المصري والمعونة العسكرية. لم يعد هذا كافياً. وإن كان غزو العراق يمكن اعتباره من تبعات هجمات 11 أيلول، أو على الأقل يأتي تالياً لها في السلسلة السردية التاريخية، فإن نظام مبارك تعامل مع الهجمات بوصفها فرصة لتعزيز موقعه كحليف في جهود "الحرب على الإرهاب". وهو الأمر الذي لم يدم طويلاً. فالديموقراطية - إحدى الذرائع الأميركية للغزو، هي ما أقلقت سلطة مبارك أكثر من أي شيء الآخر. تالياً، كانت مشاهد السقوط السريع لبغداد، وتحطيم تماثيل صدام في الميادين، ومعها عمليات السلب والنهب الواسعة من قبل الجماهير العراقية لمؤسسات الدولة، كل هذا نبّه النظام المصري إلى أن بقاءه وبقاء الدولة في حاجة إلى "الشعب". هذا التحول التكتيكي من الاعتماد على للخارج لتحقيق الاستقرار في الداخل، إلى الاستعانة بالداخل لمواجهة تهديدات الخارج، تضمّن مغامرة.

بحكم التاريخ وامتياز الحكمة بأثر رجعي، يمكننا اليوم استخلاص مآلات تلك المخاطرة. قام النظام المصري بحشد القوى المعارضة ضد الغزو، سواء بالدعاية المباشرة عبر وسائل الإعلام أو بتغاضي أجهزة الأمن عن التحركات الشعبية للتضامن مع العراق. إلا أن الأمور فجأة خرجت عن السيطرة، خاضت المعارضة والجماهير مغامرتها الخاصة، بحسابات تعاكس حسابات السلطة، وانقلبت المظاهرات ضد الأميركيين إلى احتجاجات ضد النظام المصري، وكان العنف المفاجئ ما بين الجماهير والأمن في وسط ميدان التحرير مشهداً استثنائياً وغير مسبوق منذ تولي مبارك السلطة.

مع ارتعاش صورة السلطة داخليا وخارجياً، مهد التداعي اللاحق للأحداث لعقد تحالف هش، قومي ويساري وإسلامي، تحت مظلة حركة "كفاية"، ومن بعدها تشكلت الجبهات المعارضة بشكل متسارع موجهة احتجاجها ضد تمديد السلطة حصراً. وفي المقابل، قدم النظام التنازلات واحداً بعد الآخر. عُدّل الدستور ليسمح بإجراء انتخابات رئاسية تعددية للمرة الأولى، ووجد مبارك نفسه مضطراً لخوض حملة انتخابية ضد منافسين، ما كان غير متصور إطلاقاً منذ إعلان الجمهورية.

غير أن الخراب العراقي، كان مسودة سابقة لمآلات الربيع العربي، في صورة كابوس واقعي أو تحذير من التجرؤ على القائم. سرعان ما غرق الأميركيون في مستنقع فوضى من صنعهم. صُور سجن أبو غريب، مع اندلاع الاقتتال الطائفي، كانت نذر طمأنة للنظام في القاهرة مع عواصم عربية أخرى. مهّد الفشل الأميركي لوعد غير معلن برجوع الأمور إلى ما كانت عليه في السابق. فواشنطن المتخبطة، غدت في حاجة إلى ترميم مساوماتها السابقة مع الأنظمة. وفي الداخل، صار تغيير الأنظمة بالقوة أو بغير القوة، في القلب من خطاب الوعيد، مشفوعاً بصور حية لتفجيرات الأسواق والمساجد العراقية.

إذاً، هل كان الغزو، لحظة تأسيسية لسلسلة الأحداث اللاحقة، من تشكل حركات احتجاجية واحدة بعد الأخرى، ومن ثم التمهيد لاندلاع ثورة يناير؟ بحسب المنطق السردي للتاريخ، يمكننا الإجابة بنعم، كان الغزو حدثاً مزلزلاً دامت تبعاته عقداً واثنين من الزمن. وفي المقابل، وبحسب تأويل آخر، قد يكون الغزو وما لحقه من تدمير للعراق، أساساً لتحطيم المثال الديموقراطي المُدّعى، وللتشكيك في كل النوايا من ورائه، ومنه ترسخ منطق المفاضلة بين الاستقرار أو الفوضى، منطق أنظمة الثورات المضادة والذي يجمع في تخويفه بالفوضى، بين عراق الغزو وسوريا الثورة، وكأنهما شيئ واحد، أو كأن ثانيهما امتداد للأول.