فرنسا وعقدة "الإخوان"

سلام الكواكبي
الإثنين   2024/04/29

ليس من المعروف بشكل دقيق متى صار السياسيون وقادة الرأي وصنّاعه الفرنسيون يلجؤون الى استخدام اسم حركة "الإخوان المسلمين" كتوصيف سلبي للإسلام السياسي على الأصعدة كافة. بالمقابل، يمكن أن نعتبر بشكل تقريبي بأن هذا الاستخدام بزغ على العلن بصيغته شديدة السلبية مع وقوع الانقلاب العسكري الذي قام به الجنرال عبد الفتاح السيسي، الذي دعمته فرنسا الرسمية منذ اللحظات الأولى، والذي رسّخ مصريًا لشيطنة حركة الإخوان المسلمين، في كل مناحي الحياة عمومًا وفي الخطاب السياسي تحديدًا، تبريرًا لاستيلائه على السلطة، مدعومًا من بعض المصابين بالخيبة الكبرى من سوء فترة حكمهم لمصر والتي امتدت لسنة تقريبًا (...). وما تخلّلها من ضعف أداء ومن سعي لصبغ اللون الواحد على الإدارة والقضاء، مستفيدين من لعب دور الضحية الذي عبروا من خلاله فعلا لعقودٍ طالت.

وبعد أن حفلت السنة القصيرة التي حكم فيها الإخوان مصر بزيارات متبادلة بين الرسميين في البلدين، وبعد أن وسّعت باريس وجودها الدبلوماسي والاقتصادي في القاهرة، سعيًا لتعزيز حظوظها الاستثمارية في ظل حكم الإخوان المسلمين، وبعد أن حفلت المؤتمرات العلمية الفرنسية بممثلين عن هذه الحركة من مصر ومن سواها بحجة إصلاح الحال الذي تسببت فيه نظم ما قبل الربيع العربي التي همشّت، بل وقمعت بدموية أحيانًا، الحركات والأحزاب ذات الطابع الديني، وبعد أن طوّر الفرنسيون خطابًا دبلوماسيًا وعلميًا وثقافيًا يعرضون من خلاله لانفتاحهم الإيجابي على الإخوان وما يمثلونه من أسلوب حكم، بعد هذا كله وسواه من مظاهر التقرّب من الإخوان المسلمين الذين وصلوا الى سدة الحكم عن طريق الانتخابات المستعجلة التي قامت غداة نجاح ثورة الشعب المصري، بكل فئاته، بالإطاحة بالنظام القديم وما عبّر عنه من فساد وسوء إدارة واستبداد نسبي في كافة نواحي الحياة العامة، عادت الأمور إلى مجاريها وإلى طبيعتها التاريخية.

فقد تبنّى الفرنسيون الرسميون كما سواهم من حكومات الغرب، النظام العسكري الجديد، متنفسين الصعداء، بعد أن لامستهم مخاوف تعود بهم إلى أحقاب مغرقة في القدم، جعلتهم يشكلون صورة سلبية للغاية عن دور الدين في السياسة. أضف إلى ذلك، ترسّخ الاستشراق ببعده السلبي في المخيلة التي تضع التصورات الراهنة للمنطقة العربية بكاملها. وبالتالي، صار اسم الإخوان المسلمين بعبعًا مستحدثًا في معرض توصيف هذه الفترات القصيرة من حكمهم، إن كان في مصر أو في تونس.

الفرنسيون لا يجهلون شاردة وواردة عن تاريخ الحركة الدينية والدعوية هذه، والتي مثّل مزجها بين الدعوة والحكم أسوأ نقاط ضعفها والتي سمحت لمنتقديها بالتسلّح بما هو شديد المنطقية لمجابهتها سياسيًا وصولاً إلى محاربتها أمنيًا وبل حتى عسكريًا. ولقد حفلت أدبيات العلوم السياسية بالكثير من الدراسات الميدانية والمعمّقة التي قام بها باحثون فرنسيون، مستعربون غالبًا، على هذه الحركة وسواها من التجمعات السياسية / الدينية التي برزت خلال العقود السابقة للربيع العربي وبعد فشل عدة مشاريع سياسية إقليمية ومحلية. وقد استطاع العديدون منهم تشريح العقيدة السياسية التي تتبناها هذه المجموعات الدينية. كما واستعرضوا أهم تصوراتها لأساليب الوصول الى الحكم. وبالمحصلة، فإن حركة الإخوان المسلمين كما سواها من المجموعات والحركات والأحزاب ذات البعد الديني في مصر خصوصًا وفي باقي المنطقة العربية عمومًا، لم تكن يومًا موضوعًا مجهولاً، لا للعلوم الاجتماعية الفرنسية ولا، بالطبع، للأجهزة الأمنية المتبحّرة بشؤون المنطقة العربية. كما أن الفرنسيين خصوصًا والغربيين عمومًا قادرون على التمييز بين الحركات الإسلامية المتعددة المشارب، والتصورات، والسياسات، والبرامج. وعلى الرغم من إمكان الإشارة بشكل سريع إلى أن مجمل هذه المجموعات تعود في أصولها لتصوّر جماعة الإخوان المسلمين للحياة السياسية.

ومع النجاح النسبي في شيطنة الإسلام السياسي والذي برعت في تحقيقه أنظمة الحكم الجديدة التي أتت بها "الثورات" المضادة، فقد حصلت على دعم غربي منقطع النظير، لأنها حسب اعتقاد الغرب ستجلب ـ له خصوصًا وللمنطقة عمومًا ـ الاستقرار وتحقق الأمن وتمنع الهجرة. وكلها أضغاث أحلام في ظل الاستبداد المستجّد الذي يعزّز من الهجرة ومن اللجوء، ويُضعِفُ الاستقرار ويهدد الأمن والأمان. وقد استنسخ الفرنسيون هذه الشيطنة المفيدة، ومزج سياسييهم بين مختلف الجماعات الإسلامية بدءًا من القاعدة مرورًا بالدولة الإسلامية وصولاً إلى الإخوان في بوتقة واحدة أطلقوا عليها تعبيرًا محببًا لأصحاب نظريات الإقصاء خصوصًا، وهو "الإخونجية".

وفرح اليمين المتطرف الفرنسي بتبني السياسيين من اليمين ومن اليسار هذا المصطلح الجديد الذي لا يعني شيئًا في الحقيقة. وهم الذين لم يتوانوا لحظة من إطلاق التحذيرات تلو التحذيرات مما يعتبرون أنه ارتفاع لأعداد المسلمين في المجتمع المحلي مُشدّدًا على أن "تكاثرهم" سيؤدي إلى "إحلال الفرنسيين بالمسلمين". وانحرف بعض علماء الاجتماع العارفين بضرورة التمييز بين مختلف المجموعات لتبني هذا المصطلح. وصار من العادي أن يرد هذا المصطلح لتوصيف كل ممارسة قبيحة تخلط بين السياسي والديني على لسان كبار المسؤولين السياسيين. وصار تهمة من لا تهمة له. وتعزّز هذا الاستخدام بعد عملية السابع من تشرين الأول والتي ارتبطت دائمًا بالإشارة الى المصدر الإخواني لحركة حماس. فصار مصطلح "الاخونجي" يُشير إلى الإرهابي والعكس صحيح.

مما يبعث على السخرية، أنه استحدثت تهمة جديدة هي "الاخونجي". ولكنها تنحصر في مجال السياسة والإعلام. فلا عقوبات قانونية ترتبط بها، لأن جماعة الإخوان المسلمين لم تعتبر بعد كجماعة إرهابية في فرنسا. وبالتالي، فعندما يجري اتهام أحدهم بها، يصير "إرهابيًا" إعلاميًا وسياسيًا. وعندما يلجأ الى القضاء لكي يُدين هذه التهمة المجحفة، سيكون الرد بأن لا شيئًا سلبيًا يمكن أن يستشف من هذا المصطلح ولا يمكن اعتبار الاتهام به تشهيرًا. إنه القضاء والقدر على الطريقة الفرنسية.