هل كانت إليزابيث الثانية موجودة فعلاً؟

جهاد بزي
الجمعة   2022/09/09
لنتفق من الآن: هذا المقال لن يصل في آخره إلى استنتاج ساذج بالشفقة على الملكة التي لم تعش حياتها كإنسانة كما يجب، وإلى أن مسحة حزن لازمت عينيها الملكيتين طوال سبعين عاماً من تربعها على عرش المملكة. جلالة الملكة إليزابيث الثانية، رحمها الله، كانت الأوفر حظاً في حياتها ومماتها. وإذا لم تكن حياتها هي كل ما يحلم المرء، فبماذا يحلم؟

أما وقد كُتب أعلاه ما كتب، فسؤال العنوان جدي: هل كانت الملكة من لحم ودم مثلنا؟ أم أنها كانت ملكة فحسب؟ تحب كملكة، تحبل كملكة، تنجب كملكة، تكبر في السن كملكة، تنام كملكة، تفيق كملكة، تدخل الحمام كملكة، تخرج من الحمام كملكة. تحكي مع نفسها كملكة وترد على نفسها كملكة؟

إليزابيث الثانية، مما نراه ونعرفه عنها، كانت ملكة فقط. وهي موجودة في حياة البشرية منذ الأزل تقريباً. من المستحيل أن أخاً لنا في الإنسانية لم يسمع مرة بها، أو لم ير لها صورة. وإذا كان هناك من يجهلها فهذا خطؤه المريع الذي عليه تصحيحه بسرعة، وليس خطأها. ثمة أعداد لا تحصى من البشر وعت على الدنيا وعرفت أن الإنسان قد وصل إلى سطح القمر. أجيال لا تعرف التلفزيون الأبيض والأسود والهاتف العملاق وشريط الكاسيت. تجهل كيف كان العالم قبل الانترنت وكيف كان قبل 11 أيلول وأجيال لا تعرف شكلاً للعالم قبل التيك توك. مع ذلك، فالسيدة القصيرة القامة بشعرها الأبيض وفساتينها الملونة وقبعاتها وعقد اللؤلؤ وابتسامتها الغامضة دوماً، كانت صلة الوصل بين العوالم والمنتج الأكثر نجاحاً الذي سوقته المملكة الغريبة الطباع واستطاعت الحفاظ على حضورها العالمي عبره وعبر تمسكها المرعب بالتقاليد وبالاصرار على الحفاظ على كل ما هو غريب، من نظام السير بالمقلوب إلى الميني كوبر (الرائعة للأمانة) إلى جيمس بوند ومستر بيِن إلى الباص بالطابقين والتاكسي ومجلس العموم والحرس الملكي بقبعاته وأحصنته، وصولاً إلى عائلة ويندسور، التي لو انتقلت صباح اليوم إلى كوكب مجاور (أو عادت إليه، لا فرق) لما تغير على كوكب الأرض شيئاً، إلا التساؤل عن سبب هذا الحظ الوافر الذي يعيش فيه أفرادها، بلا أي مبرر.
هذه العائلة كانت محظوظة بأمتها العريقة والمؤثرة في التاريخ البشري إيجاباً كما وسلباً. الأمة التي اختارت ديموقراطية تكاد تكون متطرفة، تطيح ببطل تاريخي مثل ونستون تشرشل كما لو أنها تتخلص من طعام بائت، بينما تبقي أفراد عائلة يعيشون ترف حياة أصعب ما فيها تطبيق بروتوكولات مرهقة فعلاً، مثل اختيار القصور التي سيمضون فيها عطلهم، وأنواع الأزياء الملائمة للمناسبات، وقصص الحب والخيانة الآتية من أدب رديء، وفضائح مثل تلك التي تورط فيها الأمير أندرو بممارسة الجنس مع قاصرات لأنه مغرور بما يكفي لأن يظن أنه يستطيع أن ينجو بفعلته. عائلة مدللة يمكن المخاطرة بالقول إنها شديدة التفاهة، لكنها محفوظة في الخزانة-القصر فقط لأن البريطانيين مولعون بالاحتفاظ بالأشياء القديمة الثمينة التي باتت غير صالحة للاستعمال، لكنها كلما عتقت زادت قيمتها العاطفية وزاد بالتالي تعلقهم بها. البريطانيون يتوارثون هذه العائلة كما لو أنها قصة أطفال، يحبون قراءتها مرة بعد مرة، يستعيدون بها طفولتهم ويتسلون بها قبل النوم، ويعشقون بعض الأحداث غير المتوقعة مع دخول عناصر غريبة إلى الحبكة، كالأميرة ديانا، التي كانت الحدث الوحيد الحقيقي غير الممل في سبعين سنة من حكم الملكة، ليكون الحدث التالي، الأخير لكن المؤقت في الذاكرة، هو وفاة السيدة الملكة، المنتظر منذ وقت بعيد حتى لم يعد فيه ما يثير الحزن، بل الحنين.
للبريطانيين شؤونهم وأحصنتهم وعراقتهم على أي حال. الملكة كانت سلاحهم الأخير في مواجهة ابتذال العالم، وبالأخص ابتذال أبنائهم الضالين العائدين من خلف المحيطات بلهجاتهم الأميركية الشنيعة التي شوهت لغة شكسبير، وشعبيتهم المبالغ بها، وجمهوريتهم المراهقة المتشاوفة. هؤلاء شبه الهمجيين بالمعايير الإنكليزية، الذين سحبوا سجادة الكوكب من تحت أقدام بريطانيا العظمى، وحجموها، وتفوقوا عليها في كل شيء. كانت الملكة - الجدة ما بعد الأرستقراطية، ألطف وأذكى ما يمكن أن يقاوموا به اجتياح الخفة الأميركية للعالم، الخفة كنقيض تام للعراقة والبروتوكول وتيجان الملوك. لكن إليزابيث كانت بشراً تكبر وتهرم وتموت وربما تقرر بنفسها متى تطفئ قلبها وتغادر عالمنا كملكة.
هل كانت إليزابيث الثانية موجودة كإنسانة خارج صورتها كملكة؟ من يعنيه حقاً مثل هذا السؤال وعن أي قلق وجودي للبشرية يجيب؟ عاشت ملكة وماتت ملكة. عاشت شبه قرن ملتزمة بالكتاب المحفوظ بحذافيره، فصارت أيقونة عالمية تامة. صارت، بالأحرى، تعويذة من تعاويذ هاري بوتر، تسحر بها بريطانيا الكوكب بأجمعه، أو معظم الكوكب على أقل تقدير.
بالأمس ماتت، وكما في قصص ألف ليلة وليلة، فُك السحر عن العالم بلحظة. وظهر وريثها. رجل مسن بلا أي كاريزما، لم يبرع في شيء إلا انتظار العرش كي يصل إليه بفعل عوامل الطبيعة التي نسيته طويلا في مقعده حتى تذكر الرب أمانته الملكية. لا يمكن ذكر اسمه أو رؤية وجهه وسماع صوته، من دون استرجاع والدته من جهة، ومن جهة أخرى الأميرة الشقراء الخلابة، البطلة الحرفية لقصص الأطفال. هذه التي عاشت مظلومة وماتت مظلومة، وإن كانت عرفت كيف تسوق لمظلوميتها إعلامياً بذكاء قل نظيره. قصة الأطفال التي لم تنته بهما يعيشان سعيدين إلى الأبد، بل بمقتل الأميرة التراجيدي في قلب شبابها. النهاية اللعنة، الخائبة والحزينة التي لحقته ولي عهد وستلحقه ملكاً، يحمل ذنب الشقراء النحيلة الطويلة، أميرة القلوب.
عاشت ملكة، كما لو أنها عاشت في لوحة. موناليزا. ماتت ملكة وسيدهش العالم برحلتها من الأخيرة من القصر إلى التراب الذي إليه تعود. خسرت بريطانيا مواطنها الأعتق والأغلى على قلبها. خسرت درة التاج. سحره. بقيت العائلة التي أفسدها الدلال. الآن ماذا؟