أميركا العالقة خليجيًا في الحرب الباردة

محمد العزير
السبت   2022/07/23

يقول المثل الأميركي "لا يمكنك أن تعلم كلبًا عجوزًا خدعًا جديدة". كم ينطبق هذا القول على علاقة الغرب عمومًا، والولايات المتحدة الأميركية على وجه التحديد بالعرب عمومًا ودول الخليج بالتحديد، وهو ما ظهر خلال الزيارة الأخيرة للرئيس جوزيف بايدن الى المملكة العربية السعودية ولقائه مع مسؤوليها ومع القادة الخليجيين والعرب الذين حضروا قمة مجلس التعاون الموسعة في جدة. بيّنت الزيارة عمق الهوة التي تفصل بين الواقع المستجد في الشرق الأوسط وبين المقاربة الغربية لهذا الواقع الذي شهد خلال ثلاثة عقود فقط تقلبات وثورات وتغييرات جذرية لا يبدو أن النخب الغربية تدرك أثرها ومداها أو أنها مستعدة للتعامل مع تبعاتها. لا تقتصر النخب هنا على المستوى السياسي بل تتعداه الى المستويات الإعلامية والأكاديمية والإقتصادية والدينية.

تمثل زيارة بايدن الى المملكة أنموذجًا راهنًا وواضحًا عن تلك الهوة. أحاط بالزيارة، وحتى قبل حصولها، لغط كثير سببه الأول بايدن نفسه منذ كان مرشحًا عام 2019، وحبس نفسه في موقف لا يمكن الدفاع عنه، عندما أعلن في مناظرة انتخابية داخل الحزب الديمقراطي أنه سيتعامل مع المملكة العربية السعودية كدولة "منبوذة"، على خلفية مقتل الصحفي المعارض جمال خاشقجي. عن بعد، فاجأ إعلان بايدن الكثيرين، فهو قبل أن يترشح لمنصب الرئاسة شغل منصب نائب الرئيس من 2009 الى 2017، وقبلها كان ولفترة طويلة رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، أو الرئيس الرديف منذ العام 1997، وعضو في المجلس منذ العام 1973. ينبغي لمن في سيرته هذه المناصب أن يكون أكثر حكمة من "نبذ" حليف موثوق لأميركا منذ الحرب العالمية الثانية.

لكن ما فاجأ الكثيرين تفهمته القلة التي تعرف أن سيرة بايدن تكبله بمنطق الحرب الباردة. تصوّر بايدن في حينه، أن السعودية لا تزال في حاجة لاغية الى أميركا ولا يمكنها البقاء بدونها. لم ينتبه الى أن الأحداث تجاوزت الحرب الباردة ومقتضياتها. مات عبد الناصر ولم تعد المملكة تخاف من شعبوية الخطاب القومي، صارت هي سند مصر ولم تعد تتوجس من مقال افتتاحي في صحيفة أميركية مرموقة، ولا تتلمس موقفًا ايجابيًا من أي سياسي أميركيي. لم يكن على بايدن أكثر من الإعتبار من حقيقة أن دولة قطر جعلت من انسحابه من أفغانستان ممكنًا وتستضيف في عاصمتها الدوحة مفاوضاته النووية مع ايران، بعدما تعثرت في فيينا. لم تعد السياسة تحتسب بمواقع القواعد العسكرية. لم تعد القاهرة مركز ثقل القرار العربي، وشارف العراق بفضل جيران السوء على الإندثار كدولة بعدما كان صدّام حسين "بعبع" النفط وأهله، وصار النظام السوري الواقف على قدمين إيرانية وروسية يستجدي القبول الخليجي. 

ملفت جدًا ومعبّر ما رافق زيارة بايدن وتلاها. سعت واشنطن الى الظهور كمسوّق ناجح لإندماج إسرائيل في المنطقة ومدافع شرس عن حقوق الإنسان لدى العرب. لم تتأخر الرياض في إحباط ذلك المسعى. سارع وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان الى تسفيه الهمروجة الإعلامية عن تقدم دبلوماسي إسرائيلي ناجز على يد بايدن وقال قبل مغادرة بايدن إنه ليس لديه علم بأي مناقشات بشأن إقامة تحالف دفاعي خليجي-إسرائيلي، مشددا على أن السعودية لا تشارك في مثل هذه المحادثات. وأكد أن قرار الرياض فتح مجالها الجوي أمام جميع شركات الطيران، ليس له علاقة بإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل وليس مقدمة لخطوات أخرى. وفي خطوة أكثر تعبيرًا نفى وزير الدولة للشؤون الخارجية عادل الجبير الملّم بحسابات السياسة الداخلية الأميركية، بطريقة دبلوماسية ما أعلنه بايدن عن طرح قضية مقتل الصحفي المعارض وتحميله (MBS) المسؤولية وأكتفى ردًا على سؤال على شبكة "فوكس نيوز" أنه لم يسمع ما قال بايدن أنه ابلغه لولي العهد.

ساهم تبلّد النخب الأميركية، والإعلامية منها على وجه التحديد، في تعميق الهوة بين الغرب والخليج. لا تفوت المتابع لوسائل الإعلام البريطانية والأميركية والغربية عمومًا ملاحظة كمية الحسد والإفتئات والتحامل التي تنضح بها تقارير المراسلين من الخليج العربي. تحرص الصحف والمواقع الإنكليزية اللغة على إظهار مساوئ الخليج والعرب عمومًا وتدير الأذن الصماء لأي إنجاز أو تقدم أو نجاح. وبدل التزام الأصول المهنية في تغطية المونديال الذي تستضيفه قطر هذا العام، أو مشروع "نيوم" السعودي في البحر الأحمر، لا تزال عالقة في إعادة تدوير ادبيات الحرب الباردة، فيما تقتفي المستويات الأكاديمية خطى السياسة وتركز على قضايا الحوض الباسيفيكي تاركة الشرق الأوسط لآخر بدع صموئيل هانتغتون عن صراع الحضارات، وتتبارى المؤسسات الدينية في الترويج لـ"القيامة" التي تتطلب إعادة تجميع اليهود في أرض الميعاد من اجل حرقهم كافة ليظهر المسيح المخلص بعدها، وحتى ذلك الحين لا هم يشغلها سوى "قانون الشريعة" الذي لم تذكر أية كنيسة أنه يؤول الى الزوال من الخليج أولًا.

عندما أراد باراك أوباما الفائز برئاسة أميركا مخاطبة العرب اختار القاهرة، وفي القاهرة التي صدّقت رومانسياته الديمقراطية وثارت اكتشف أن للواقعية الأميركية رأياً آخر، وأن مصالح إسرائيل أهم وأبقى. بعدها كان عليه أن يلحس الخط الأحمر الذي رسمه لبشار الأسد في سوريا لأن لإسرائيل رأياً آخر. ذُبح الربيع العربي في عهده وصار حكم العسكر أمنية من بقي على قيد الحياة من الشعوب، ومع ذلك لم تتغير الصورة النمطية في اذهان النخب الغربية عن العرب. آن لهذه النخب أن تستفيق، وأن توقن أن الواقع ليس رهنًا بما تراه.