لكي نفهم سليمان هلال الأسد

عمر قدور
الثلاثاء   2022/06/28

يروي لنا الشاب أنه أوصل صديقته إلى بيتها، في حي "مشروع الزراعة"-اللاذقية، ولسبب ما تلكأ حتى خرجت إلى شرفة المنزل وتبادلا الكلام والإشارات. في هذه اللحظة داهمه حرس الفيلا المجاورة، واقتادوه إلى حيث يجلس فواز، ليكتشف أن الأخير طلب منهم ذلك بعدما رآه وهو يتبادل الإشارات مع الفتاة التي كانت في الشرفة. 

تلقى الشاب أولاً الاتهام بأنه من النوع الأزعر "الصايع"، والذي لا بد أنه يغرر بالفتاة. ليبدأ الدفاع عن نفسه بأنه ليس كذلك، وبأنها حبيبته حقاً. لكن ليس من السهل إقناع "المضيف" الذي كان مصراً على الاتهام، وذلك يعني تلقي عقوبة لا يمكن التكهن بها، وقد تكون عقوبة القتل أقل سوءاً من تنكيل آخر قد يخطر في باله. رغم تأكيدات الشاب على حسن نواياه، لم يقتنع صاحب الفيلا، إلا أنه أمره بالمغادرة فوراً، وبعدم المجيء ثانية إلى الحي وإلا...

مشى الشاب مغادراً وهو مستعد لا لعدم العودة، بل لنسيان الحي بأكمله، فالمهم أن ينجو. قبل وصوله إلى الباب، طلب منه الرجوع، لتبدأ جولة ترهيب أخرى، يقتنع خلالها صاحب السطوة بأن الشاب ربما كان حسن النوايا، ليأمره بالمغادرة، بشرط أن يأتي كل شهر في اليوم والتوقيت نفسه ليشير إلى الحبيبة في الشرفة، وإلا... قبل خروجه، سيأتيه الأمر ثانية بالعودة، ليجادله مرة أخرى في نواياه، ثم يقتنع بصدقها أكثر مما سبق، فيأمره بالمغادرة بشرط المجيء في اليوم والتوقيت نفسه من كل أسبوع وإلا... ثم سيتكرر التعذيب، بين "اذهب" المبشّرة بالنجاة و"تعال" التي يصعب التكهن بما خلفها، حتى يقرر فواز إطلاق طريدته قائلاً له: اخرجْ من هنا، وعُدْ إلى الشارع متى شئت.

هي باختصار قصة صاحب سلطة، قرر استخدامها في تلك اللحظة وذلك المزاج بأن يتسلى بعابر رآه بالمصادفة. النتيجة والتفاصيل لم يكونا معدّين من قبل، إذ ليس مضموناً أن يبقى المزاج على ما كان عليه، وكان من المحتمل أن يُستفزّ مثلاً بطريقة أخرى للتعبير عن الخوف، فتلقى طريدته مصيراً عديم الرحمة. وهي قصة الاستخدام المجرّد للسلطة، إذ ليس من هدف آخر، ولا من مكسب في النهاية؛ لا شيء سوى الاستمتاع بها المنزَّه عن الأغراض الأخرى!

لكن قصص الراحل فواز لم تكن دائماً على هذا النحو من الطرافة وقلة الأذى، ونحن عندما نكتفي باسمه الأول فلأن ذكره أمام أهل اللاذقية كان كافياً لمعرفة المعني. أما هو فقد كان لسنوات على الأقل يفضّل أن يسبق اسمه لقب "الأستاذ"، ولا ضرورة لربط هذا التفضيل بافتتاحه مكتباً للمحاماة منذ تسجيله في كلية الحقوق طالباً في السنة الأولى.

في النصف المليء من الكأس أن المحاماة مجزية كما يفهمها، وهذا قدر أرأف بالعباد مما لو اختار مثلاً ممارسة الطب كجرّاح. لاقى مكتب المحاماة نجاحاً باهراً باستقطابه زبائن يريدون الحصول على ما يريدون خارج المحاكم، أو زبائن مستعدين للدفع بسخاء لمن يرغم القضاة على إصدار أحكام لصالحهم. ربما تقديراً منه لنجاحه هذا، قرر الحصول على شهادة دكتوراه في القانون، لكن خبر الدكتوراه لم يُعرف على نطاق واسع حتى نُشر في ورقة النعي الخاصة بوفاته عام 2015، ولم تخرج الورقة عن مألوف ما شهدناه في نعوات أخرى لجهة الإشارة إلى عدد سنوات عمره التي أمضاها جميعاً في الصلاح والتقوى. 

يُنسب لفواز كونه مصدر اختراع مفردة "الشبيحة"، إذا كان هو ومرافقوه يستقلون فئة خاصة من سيارات المرسيدس عُرفت محلياً باسم "الشبح". كانت مواكب تلك السيارات بزجاج نوافذها الداكن تتولى أيضاً نقل المهرَّبات من الدخان والمخدرات وغيرها، ومن المعتاد أن تُفتح النوافذ ليفتح معها نار الرشاشات، بل أشيع مرة أن رجاله استخدموا مضاداً للطيران في اشتباك مع خفر السواحل. 

ولشدة سطوته، أشيع لمرتين على الأقل أن أبناء عمومته من دمشق أتوا للإشراف على لجمه، بعدما تمادى في الشطط. وكان ذلك يحقق هدفاً مزدوجاً، الإعلاء من شأنه إذ لا يتجرأ عليه سوى المستوى الأعلى العائلي، وإظهار هيبة أولاد العمومة الذين يفوقونه سطوة، مع إظهار أنهم غير راضين عن تجاوزاته ولن يسمحوا بها ثانية، إلا أن للقرابة أحكامها التي ستطلق يده من جديد وبأقوى من قبل.   

تنطلق الأقاويل المتداولة عن فواز من عدم الاعتراف بما نراه عادة ينتمي إلى اللامعقول، فسيرته تتسع لأقاويل عن تدخل عمه الرئيس آنذاك لتهريب فتاة هدد بخطفها، ليرحل بها إلى الخارج أبوها الضابط الكبير. وهي تتسع لأقاويل عن فتاة أخرى لم تتمكن من تجنب مصير أسوأ، انتهى بها إلى تراب حديقة مكتبه! وكان كافياً بالطبع أن يحب فريقاً محلياً لكرة القدم، ليصبح الرئيس الفخري للنادي، وليؤرّق حكام المباريات ولاعبي وجماهير الفرق المنافسة.

يلزم عشرات الصفحات على الأقل لسرد ما يُروى عن فواز، وأهمية ذلك كله في أنه يقدّم لنا النموذج الأمثل عن اجتماع الفجاجة مع سلطة بلا حدود مع مستوى متدنٍّ من التعليم، ومع مستوى منعدم تماماً من الروادع الذاتية. لا يخفى أيضاً هنا الطابع الريفي، فالمعني لم يذهب للدراسة في مدارس خاصة في مدن كبرى، لا لما تتيحه هذه المدارس من سوية تعليم عالية، بل لما فيها من اختلاط مع أبناء مدن، ومن اكتسابٍ لمهارات مدينية تنفع في ارتكاب الموبقات ذاتها بفجاجة أقل. ثم إن المدن الكبرى تُبعِد تلقائياً عن حسابات الريف والجرائم المتعلقة بها، لجهة تلك الثارات القديمة، أو ما هو حديث منها ويتعلق منها بالتنافس على الوجاهة. 

تفيدنا سيرة فواز، وقد اكتملت وانتهت قبل سنوات، في فهم سيرة انقضت أيضاً مثل سيرة هلال الأسد، أو سيرة ابنه من بعده وعلى سبيل المثال معركته الأخيرة مع أبناء عمومته. وتفيدنا السيرة من جانب آخر في فهم "الفرع الشامي" من أبناء العمومة، إذ نرى النسخة الريفية الأصيلة منه، وقد لا نبالغ في القول أن الابتعاد الجغرافي عنها لم يقترن بابتعاد عن جوهرها، خاصةً في سنوات النكوص الأخيرة.