دورة حياة "الروبل القوي"

إياد الجعفري
الأحد   2022/05/29

في سوريا، حيث تنتشر صور فلاديمير بوتين إلى جانب بشار الأسد، في الكثير من شوارع المدن الخاضعة لسيطرة النظام، سيكون من المثير للسخرية أن تطرح على أحدهم، الروبل الروسي، بوصفه أحد الملاذات الآمنة التي يلجأ إليها السوريون لحفظ قِيَمِ مدخراتهم. كما سيكون من المثير للسخرية أيضاً، أن تتحدث عن مزايا استثمارية، للعملة الروسية.


وفي هذا السياق، قد يكون من المفيد التذكير بالفكرة التي أطلقها صناعي سوريّ –عاطف طيفور- مطلع آذار/مارس المنصرم. حينما دعا إلى اعتماد الروبل الروسي كعملة رئيسية للتبادل التجاري والحوالات والسياحة والبدلات والحسابات المصرفية. بل ذهب إلى أبعد من ذلك، ودعا إلى رمي الدولار واليورو في أقرب مكب نفايات. وبعد حوالي ثلاثة أشهر على تلك الدعوة الغرائبية، لم يُسجل أي تجاوبٍ معها، لا من جانب قطاع الأعمال السوري، ولا من جانب البنوك العاملة في سوريا، ولا حتى من جانب حكومة النظام، ذاتها، التي ما تزال تعتمد الدولار الأمريكي، بوصفه العملة الرئيسية التي يدفع بها المغتربون في السفارات، لقاء المعاملات والأوراق الرسمية التي يضطرون للحصول عليها من هناك. 


ورغم أن الواقع في سوريا، يكذّب التنظير في وسائل الإعلام، لصالح ما بات يُعرف بـ "الروبل القوي"، إلا أننا يجب أن نقرّ أن هذا الترويج لنجاح روسيا في مواجهة العقوبات الغربية، لا ينحصر في البلدان التي تدور في الفلك الروسي. بل نجده في أقلام اقتصاديين، من المفترض أنهم محايدون، يتحدثون عن "قدرة لا محدودة على التحمل" أثبتها الاقتصاد الروسي في الأشهر الأخيرة. وصولاً إلى استنتاجات مؤدلجة، تتحدث عن نهاية عصر الدولار الأمريكي، وانهيار أوروبا العجوز، ونهوض المارد الروسي من جديد. 


ولم يسلم حتى الإعلام الغربي، من موجة الإعجاب بقدرة روسيا على تجنب أثر العقوبات غير المسبوقة عليها، بل وإظهار مؤشرات تعافٍ وقوة، تمثلت بصورة رئيسية، في صعود قيمة عملتها المحلية، حتى وصفها تقرير لشبكة "سي بي إس" الأمريكية، بأنها العملة الأفضل أداءً في العالم، منذ بداية العام الجاري.


وفي خضم موجة الانبهار تلك، بـ "الروبل القوي"، من المفيد التساؤل: هل هو نتاج ظروف حقيقية أم مصطنعة؟، وهل هو مؤقت بدورة حياة قصيرة، أم سيفرض نفسه –بالفعل- كعملة عالمية؟ يتطلب ذلك، مناقشة الأسباب التي جعلت الروبل "قوياً"، وتقييم مدى ديمومة هذه الأسباب.


أصبح الروبل "قوياً"، لجملة أسباب، من أبرزها، مضاعفة سعر الفائدة في بداية الحرب، وارتفاع أسعار النفط والغاز، وفرض روسيا بيع الغاز بالعملة المحلية على الدول "غير الصديقة". إلى جانب الضوابط الصارمة على حركة رأس المال الأجنبي وعلى بيع الروبل وشراء القطع الأجنبي، في الداخل الروسي، ناهيك عن إلزام المصدّرين بتحويل 80% -أصبحت الآن 50%- من إيراداتهم من القطع الأجنبي إلى الروبل. وهو إجراء شبيه بإلزام المصدرين ببيع 50% من القطع الأجنبي المتوفر لديهم من عمليات التصدير، بالسعر الرسمي، للمركزي السوري.


هذه الإجراءات، والتي هي قسرية ومُصطنعة –باستثناء ارتفاع أسعار النفط والغاز-، أدت إلى زيادة الطلب على الروبل. لكن استمرار هذه الإجراءات لأمد طويل، له آثار سلبية تفوق تلك الإيجابية. وفي هذا الصدد، قدّم الخبير ووزير الاقتصاد السوري الأسبق، نضال الشعار، قراءة مثيرة للاهتمام. والشعار يحمل دكتوراه فلسفة في علم الاقتصاد النقدي والدولي من جامعة جورج واشنطن الأمريكية. وبهذا الصدد، طرح الرجل تساؤلين مهمين: ماذا سيفعل المركزي الروسي بتريليونات الروبلات الروسية المكدسة لديه بعد أن ألزم المصدّرين الروس ومشتري الغاز الأجانب بدفع العملة المحلية له؟ ما مصير هذه السيولة الهائلة من الروبلات، لو وقفت الحرب في أمد قريب مثلاً؟ قد تكون إحدى الأجوبة، أن مُشتري الغاز مضطرون لشراء الروبل مجدداً وبالتالي فدورة هذه السيولة ستبقى مستمرة. وهنا نعلّق من جانبنا، أن ذلك يمكن أن يكون صحيحاً، لو لم يكن الأوروبيون بصدد التخلص من الارتهان للنفط والغاز الروسي، خلال سنة أو سنتين على الأكثر، حتى لو توقفت الحرب. مما يعني أن دورة حركة الروبل الروسي ستتضاءل تدريجياً، وبالتالي، فإن سيولة ضخمة من الروبل ستتكدس لدى المركزي الروسي، مما سيضطره في النهاية إلى طرحها، بطريقة ما، في الأسواق، وهكذا سيهوي سعر صرف الروبل.


كذلك، من الأسئلة المثيرة للاهتمام التي طرحها نضال الشعار، تتعلق بالكيفية التي سيتغير فيها الطلب على القطع الأجنبي داخل روسيا، حينما تتوقف الحرب. ببساطة، سيزداد الطلب على القطع الأجنبي، لأغراض الاستيراد، ذلك أن 75% من مكونات الصناعات غير الغذائية مستوردة، مما يعني، أن الروبل الروسي سيتهاوى.


تلك معالجات موجزة، توضح أن دورة حياة "الروبل القوي"، قصيرة للغاية، ومرتبطة بإجراءات استثنائية قسرية، تتعلق بأزمة الحرب والعقوبات. ولاحقاً، ستضطر السلطات الروسية إلى التخفيف من تلك الإجراءات، لأنها تقيّد النشاط الاقتصادي في روسيا إلى أقصى الحدود. وهو ما حدث في سوريا مثلاً. فإجراءات من قبيل إلزام المصدّرين ببيع نصف القطع الأجنبي المتأتي من عمليات التصدير، أدت إلى ركودٍ كبيرٍ في النشاط الاقتصادي، كما يقرّ بذلك، خبراء اقتصاديون موالون للنظام.



لكن الأخطر في الحالة الروسية، أن هذا البلد سيخسر رأس المال الأجنبي الذي خرج منه. وتحديداً، الشركات الغربية، بخبراتها النوعية. وعلى الأرجح، ستستمر حالة المكاسرة الاقتصادية بين الغرب وروسيا، مما يعني أن استيراد منتجات تقنية عالية النوعية من الغرب، ستبقى ممنوعة على روسيا، مما سيجعل الاقتصاد الروسي يخسر سنوات من التنمية التكنولوجية. فروسيا، الغنية بمواردها النفطية والغازية والزراعية، ستكون مجبرة بشكل كبير، على الانزواء في خانة الاقتصاد الريعي، في إجهاضٍ لمساعيها للتحول إلى اقتصاد إنتاجي صناعي، على المدى البعيد. فالشركات التي خرجت من روسيا، من الصعب أن تعود، في معظمها، حتى لو حصلت تسوية سياسية تنهي الحرب، في وقت قريب، ذلك أن خسائرها الناتجة عن اضطرارها القسري للهجرة من السوق الروسية، ستبقى درساً يجعلها تتريث مراراً قبل العودة إلى هذه السوق مرة أخرى. أما البديل الصيني، فيبدو الرهان عليه، مبالغاً فيه، فالصين التي تملك شركات عملاقة لها تشعبات ومصالح داخل اقتصاديات الدول الغربية، ليس من مصلحتها الوقوع في فخ العقوبات. مما يجعل البديل الصيني، محدود الأثر، قد ينفع في منع انهيار الاقتصاد الروسي، لكنه لن يمنع وقوع الضرر الآخر، وهو خسارة روسيا للقدرة على التشبيك مع شركات الغرب الصناعية والتقنية المتقدمة، بصورة تسمح لها بتحقيق تنمية نوعية، لا أن تبقى اقتصاداً ريعياً، يحميه فقط سعر برميل النفط، أو الغاز.


يدرك الخبراء الروس الحقائق السابقة جيداً، لذلك يراهنون على تعظيم حدة الاستقطاب في العالم، والدفع به إلى معسكرين، أحدهما مع الغرب، والآخر مع روسيا. وهو أمر لا يبدو أن الصين، اللاعب الأبرز في هذا المجال، مستعدة له. كذلك، لا تلقى موسكو دعماً في هذا الاتجاه، من دول إقليمية كبرى، كالهند وإيران ومصر ودول الخليج، أيضاً. فهذه الدول جميعها، تضع قدماً مع روسيا، وأخرى مع الغرب. مما يصعّب الأمر على موسكو، التي فشلت حتى الآن في خلق أجواء مناسبة للتبادل التجاري بالعملات المحلية، مع دول كمصر والسعودية مثلاً، رغم مساعيها منذ سنوات، في هذا الاتجاه.


أما في سوريا، التي لا يمكن أن تشكل أي متنفس حقيقي للاقتصاد الروسي، قد يجد الروبل في وقت قريب من يشتريه، مضطراً. حالما يعود المرتزقة الذين أرسلهم النظام للقتال في أوكرانيا، وهم يحملون أجورهم بالعملة الروسية، حيث سيعملون على استبدالها بالليرة أو بعملات أخرى. وسيجدون تجاراً مضطرين لشراء الروبل، كي يدفعوه بدورهم للتجار الروس لشراء الحبوب القادمة من المناطق التي استولت عليها روسيا، في شرق أوكرانيا، انطلاقاً من موانئ جزيرة القرم. لكن لا يمكن لهذه السوق المحدودة للغاية، أن تجعل دورة حياة "الروبل القوي"، أطول. كما أنها ستبقى محدودة للغاية مقارنة بسوق الطلب على الدولار، في سوريا ذاتها، التي لا تستورد الحبوب فقط. كما أنها لا تستورد الحبوب من روسيا والمناطق المستولى عليها في أوكرانيا، فقط. بل سيبقى لدى التاجر السوري خيارات أخرى، كالهند، أو دول في أمريكا اللاتينية، على المدى البعيد. كما أن شراء السلع الروسية بالروبل، سيكون، على الأرجح، مؤقتاً. فالاقتصاد الروسي لن يتحمل كثيراً، الانقطاع عن القطع الأجنبي، الذي يحتاجه لشراء سلعٍ أخرى. فروسيا، لا تحيا بالغذاء وحده. وهكذا فإن الرهان على حياة مديدة ل "الروبل القوي"، رهانٌ سياسي، تعوزه المقومات الاقتصادية الموضوعية.