طوائف سوريّة عميلة للاستعمار

عمر قدور
الثلاثاء   2022/05/24

في نهاية آب 2012، انكشفت لأول مرة على هذا النحو الواسع الوثيقة التي يرفض فيها علويون التحاق دويلتهم بسوريا "المسلمة السُنية"، ويحذّرون من منح سوريا الاستقلال التام الذي يعني هيمنة روح الحقد والتعصب التي يغذيها الدين الإسلامي، ولا أمل تالياً في أن تتبدل هذه الوضعية، ما يعني أن الأقليات ستكون في خطر شديد. حينها، في جدال ضمن جلسة لمجلس الأمن، ردّ المندوب الفرنسي جيرار آرو "في حضور وزير الخارجية لوران فابيوس" على بشار الجعفري مندوب الأسد بإشارته إلى الوثيقة التي كان جد الأسد من بين الموقعين عليها، الوثيقة التي حملت الرقم 3547 تاريخ 15/6/1936، أي في فترة المفاوضات التي سبقت إبرام معاهدة الاستقلال بين فرنسا وسوريا.

كان المتظاهرون ضد الأسد في 17/6/2011 قد اعتمدوا لذلك اليوم تسمية "جمعة الشيخ صالح العلي"، وهو شيخ علَوي قاد ثورة ضد الفرنسيين استمرت حوالى أربع سنوات، وكان قبلها قد اشتبك مع العثمانيين أيضاً. يُستحضر الشيخ صالح العلي كنموذج "علوي" مغاير لأولئك الذين وقّعوا الوثيقة المطالبة ببقاء فرنسا، بما يحمله ذلك من تبسيط شديد مفاده وجود الخائن والمناضل بما يمنع التعميم على المجموع. 

خارج تلك الحساسية العلوية-السنية، سنعثر على رواية أخرى تخص الشيخ صالح العلي. لإسماعيلية القدموس ومصياف ذاكرة مغايرة لما باتت أشبه بذاكرة سورية مشتركة عن النضال ضد الفرنسيين، فصالح العلي من وجهة نظر كثر هناك هو "بطل" تهجير الإسماعيليين من القدموس إلى السلمية، و"بطل" حصار الإسماعيليين في مصياف، وهو حسبما يُروى حصار خانق وصل إلى حد التجويع. بموجب هذا السردية، يظهر الشيخ العلي كقاطع طريق أحياناً، وتارة أخرى كطامع في السيطرة على الأراضي الزراعية لأولئك المستهدفين بهجماته وحصاره. 

قليلة هي المصادر المكتوبة التي تشير إلى ما سبق، وبمجملها تحاول تبرئة الشيخ صالح من الهجوم على الإسماعيليين، مع تلميح إلى عمالة ضحايا الهجوم للفرنسيين ليبدو الهجوم عليهم من ضمن سياق الحرب ضد الاحتلال. بينما تنص السردية الإسماعيلية على تدخل الفرنسيين لحمايتهم، بحكم دور فرنسا كقوة انتداب من واجبها حفظ الأمن، لا محاباة للإسماعيليين على حساب العلويين، ولا عمالة منهم للانتداب. بل يبرز كتلميح هنا أن اصطدام العلي بالفرنسيين لم يكن على أسس وطنية في الأصل، بقدر ما كان خروجاً عن النظام العام. 

ضمن الحقبة ذاتها، كان إبراهيم هنانو يقود ثورته ضد الفرنسيين في الشمال السوري، وليس سراً أن ثورته حظيت بدعم وإمداد تركيين، إلى أن أبرم أتاتورك اتفاقاً مع الفرنسيين قطع بموجبه الإمدادات عن هنانو. ويجب ألا تكون مفاجئة الاتهامات التي طالت ثورة هنانو بوصفها ثورة مدفوعة من تركيا، وعلى نحو أوضح بوصفها ثورة سُنة يريدون استعادة الحكم التركي، على الرغم من التطورات السياسية المستجدة في تركيا آنذاك بقيادة أتاتورك، والتي بطبيعتها تستبعد الحلم العثماني القديم. عطفاً على ذلك، لم تنل ثورة هنانو الاهتمام الإعلامي المستحق ضمن السردية الرسمية عن النضال ضد الفرنسيين، وبقي أشبه ببطل محلي مُحتفى بذكراه في حلب وإدلب. 

والنظر إلى الطبقة المدينية السنية، قبل مائة عام، كان أسير علاقتها الوثيقة بالسلطة العثمانية التي خسرت الحرب للتو. ومن المعلوم أن الثورة على السلطنة لم تأتِ بدفع من هذه الطبقة، وإنما بتشجيع غربي أولاً وقيادة الشريف حسين من مكة تالياً، بينما بقيت السردية السائدة لعقود طويلة تنص على أن الاستياء العربي من السلطنة أتى فقط على خلفية سياسة التتريك المتبعة من قبل جماعة "الاتحاد والترقي"، وهذا بالتأكيد مختلف جداً عن استياء غير السُنة من الحكم العثماني برمته، الحكم الذي تأخر تقريباً حتى منتصف القرن التاسع عشر في إعطاء حقوق "المواطنة" لغير المسلمين.

قبل هزيمة العثمانيين، وفيما سُمّي طوشة عام 1860، كان الانقسام المسيحي-الإسلامي قد حدث، وانتهى إلى إنشاء متصرفية جبل لبنان عام 1861، في نظام جعل المسيحيين مرتبطين بالدول الأوروبية التي باتت رسمياً مشاركة في نظام المتصرفية. الأحداث التي امتدت من لبنان إلى سوريا، ويُقال أن 8500 مسيحي قُتل في حي باب توما وحده، كان طرفاها الغرب والسلطنة العثمانية، بأدوات محلية "طائفية" تابعة لأحد الطرفين. موازين القوى آنذاك هي التي رسمت حدود المتصرفية، رغم سريان الاقتتال خارجها، إلا أن احتساب المسيحيين على الغرب لن يتوقف عند حدود المتصرفية، أو عند حدود لبنان الكبير لاحقاً.

نجا دروز سوريا إلى حد ما من التجاذبات، رغم مشاركتهم في طوشة 1860 إلى جانب المسلمين، ليأتي الاتفاق على سلطان باشا الأطرش قائداً عاماً للثورة السورية ضد الفرنسيين كحدث مفصلي بتأثير مديد، ينظر من خلاله الدروز إلى أنفسهم كركن أساسي للوطنية السورية. لكن قيام الحكومات الإسرائيلية بمنح دروز فلسطين "مزايا" منها الخدمة العسكرية الإلزامية ألقى ظلالاً من الريبة "المعبَّر عنها شفوياً" على دروز سوريا أيضاً، وتحت ستارها تعرض الدروز لتهميش أقسى خلال حكم الأسد، مع متاجرته المستمرة بصمود ووطنية أهالي الجولان! بعد انطلاق الثورة سيسترد الدروز الاعتبار لأسباب تتعلق بإدارتهم محاولات استمالتهم، ضمن الاستقطاب الحاد أولاً بين الثورة والأسد، ثم الاستقطاب الذي أخذ منحى طائفياً.

أيضاً لم ينجُ أكراد سوريا من تهمة العمالة والانفصالية بدءاً من السبعينات، في وقت لم يكن هناك فيه حراك كردي محلي، فأتت الاتهامات إسقاطاً عليهم من نظيرتها الموجهة لأكراد العراق، تحديداً تهمة العمالة لإسرائيل. لتعود الاتهامات إلى البروز مع إنشاء منطقتي حظر طيران أثناء حكم صدام حسين، ثم منح إقليم كردستان العراق حكماً ذاتياً إثر الغزو الأمريكي. 

خارج لغة التخوين والعمالة، من المؤكد أن حساسيات السوريين تجاه الخارج ليست مشتركة. ذلك ظهر ويظهر خاصة في الأوقات المفصلية أو التأسيسية، كما هو الحال الآن، وكما كان الحال قبل قرن. لا يزال مثلاً النظر إلى العلاقة مع تركيا محكوماً بالذاكرة القديمة لمختلف الجماعات مع الحكم العثماني، وكأن مائة عام لاحقة وجوار جغرافي حتمي لم يغيّرا شيئاً في القناعات والاصطفافات. أما الحماية التي كانت مطلوبة من فرنسا فقد أصبح لها عنوان جديد، موسكو أو طهران وأيضاً بما يتناسب مع الجماعة المذهبية التي تتوسل الحماية.   

من المؤكد أن تكوين سوريا قبل مائة عام اجتمعت له إرادات وظروف دولية، لكن ذلك لم يكن في غياب إرادة العيش المشترك، ولا أيضاً في غياب عوامل التنافر بين مختلف المجموعات. الآن، سيكون من الخطأ القول بأن التاريخ يكرر نفسه كما حدث من قبل تماماً، ومن الخطأ أيضاً عدم رؤية عناصر التكرار ودلالتها على فشل مقيم لمدة قرن.