فوتبول وعروبة ومغرب وفلسطين

جهاد بزي
الأربعاء   2022/12/07
لاعبو المنتخب المغربي يرفعون علم فلسطين بعد فوزهم على إسبانيا (انترنت)

بالتلقائية التي لا تحتاج إلى سؤال، وجدتني أصرخ للمغرب، كمغربي ربما، إلا قليلاً. ليس أنها مباراة أخرى بين الأرجنتين والمكسيك، أتفرج عليها للاستمتاع بلعبة كرة القدم التي في الأصل أراها لعبة مملة تخليت عن متابعتها منذ زمن بعيد، وتبين لي في هذه الأيام أنني كنت مخطئاً بشدة. لا. المغرب يلعب مع إسبانيا وأنا مع المغرب، بغض النظر عن مستواه، مع أنه يحقق حتى اللحظة نتائج ممتازة. يفوز على بلجيكا، وينتقل إلى دور ال16 ويواجه إسبانيا. لكن حتى لو لم يكن كذلك، كنت سأشجعه. وأنا الآن معه في مواجهة المنتخب القوي، ليس لأنني حاقد على فقدان غرناطة العزيزة، ولا قرطبة، ولا أبكي مع الكمنجات التي تبكي على العرب الخارجين من الأندلس. بل، ببساطة، لأن لي أصدقاء وصديقات مغربيين، أتشارك معهم ضحكاً كثيراً حول استعصاء لهجتهم، وحول أغنيات وشعر ونقاش عن أي مطبخ أشهى، وخلافه مما قد لا يمت للعروبة بصلة، لكنه في صلب العروبة.

قرطبة، للأمانة، لا تعنيني الآن، بينما اللاعب المغربي يسدد ركلة الترجيح. يعنيني أن حارس المرمى الإسباني سيفشل في صد الكرة. بهذه البساطة. أن يسجل اللاعب المغربي (ما اسمه؟) الهدف. إن لم تكن هذه هي العروبة فما هي العروبة؟

العروبة، عندي، مصطلح بمفاهيم كثيرة. كان ساذجاً في البداية بالطبع. وطن عربي واحد، ثائر على حكام مجهولين، كهؤلاء الذين شتمهم نزار قباني ولم يسم أحداً منهم. وطن كل الذين فيه عرب صرف، فلا إثنيات ولا أعراق ولا لهجات ولا لغات مكتوبة ولا ثقافات موروثة ولا أزياء من جدة إلى حفيدة ولا فلكلور شعبي فخور ولا شيء. وطن عربي ستاليني الطابع كان البعثان، العراقي والسوري، رائدين في تسويقه، وقبولنا به، من حيث لا ندري ولا نفهم، إضافة إلى ما وهبه للعروبة جوكرها الضاحك، الأول والأخير، العقيد الراحل معمر القذافي.

ثم، بعدها، كان الوطن العربي الذي لا يمكن مقاومة شاعريته، كتبه محمود درويش وغنى بعضه مارسيل خليفة. وطن مجازي كانت فلسطين فكرته الحلوة، مياهه العذبة التي لا نستطيع إلا انتظارها. فلسطين محمود درويش هي نفسها فلسطين شيرين أبو عاقلة، ومن بينهما، ومن كان قبلهما ومن أتى وسيأتي بعدهما. ليست مجرد شعر يُنظم. ليست وهماً قومياً. فلسطين والفلسطينيون ليسوا وهماً قومياُ. هذه قضية إنسانية في الأصل. ومع أن الأنظمة العربية استغلتها إلى أقصى ما استطاعت، بقيت كما هي، سؤالاً في صلب ضمير الإنسانية. الأوروبيون استيقظوا متأخرين إلى أحقيتها، وبخجل، وبشعور لا ينضب بالذنب من الحرب العالمية الثانية في المقابل. يستيقظ الأوروبيون على مهل، بينما العروبة تبنتها من البداية. العرب، بالأحرى، تبنوها. والعرب فيهم مسلمون ومسيحيون. فيهم محافظون ويساريون وليبراليون، وفيهم من لا يقول أنه عربي أصلاً، لكنه يقول إنه مع الفلسطينيين.

ما العروبة إذن؟ فلسطين؟ فلسطين بعض منها. الفلسطينيون بعض آخر، إنساني، وليس أرضاً محتلة فحسب. حين يخرج الفلسطينيون من المجاز الذي يحاطون به يصيرون مثل البقية الباقية من العرب. مهاجرون لهم أحلام صغيرة. يسعون كما يسعى الجميع ويخطئون ويفشلون وينجحون. لكن، في دفاتر يومياتهم، هناك منهم الذي كسر أرقاماً قياسية في عدد سنوات اعتقاله، وهناك من تهرّب سائل زوجها المنوي في ورقة سكاكر كي تحمل منه. كي تستمر حياتهما كما هي افتراضاً، ببنات وصبيان. هناك أزقة مخيمات، لن يفهمها إلا من مشى فيها، ولد فيها ناس وفيها ماتوا. هناك رواية طويلة، هائلة، أبعد من رفع علم البلاد في المونديال، ومن كوفية تعتمرها أرجنتينية. أبعد من العروبة نفسها، العروبة التي أبحث عن فهمها الآن، ولا أجد لها معنى.

ها قد تاهت فكرتي مني. سأحاول مجدداً. ما هي العروبة؟ كنت قد قلت إنها تنقلت في ذهني من حالة إلى حالة. لم تعد "الوحدة العربية"، حتماً، تلك التي من المحيط إلى الخليج، خاصة إذا جاءت بمعمر قذافي، لا قدر الله، ومعه كتاب أخضر أقرب إلى كتاب نكات. العروبة غير ذلك. العروبة ربيع لم يزهر، لكنه، على الأقل، صنع وعياً في جيل كامل من العرب. جعلهم أكثر وعياً وفهماً ونضجاً وتسامحاً. جعلهم أكثر صدقاً في إيمانهم بأن الأشياء ليست مجرد لونين. جعلهم يتقبلون الآخر بناء على ما قرروا منه، وليس ما فرضته عليهم عقائد وأنظمة. وهؤلاء الذين تغيروا وسيتغيرون موجودون وسيوجدون على امتداد اللغة العربية ولهجاتها وبلادها. عددهم ليس مهماً. المهم أنهم موجودون. يصنعون فناً بديلاً وفكراً بديلاً، ومحتوى سوشال ميديا بديلاً. هؤلاء، على ما أريد أن أظن وأتمنى، هم العروبة.

تاهت مني هذه السطور وتهت بها. الفكرة التي بها بدأت كانت أنني فرحت للمغرب فرحاً مجرداً، لأن لي أصدقاء مغاربة، ولأن الفريق يقارع منتخبات أوروبية عريقة ويهزمها ويدخل شعوبها إلى أسرتهم، ويغطيهم ويغني لهم كي يناموا فوق حزنهم وتحته. هذه فكرة مسلية جداً. أن تنام بلجيكا وإسبانيا حزينيتن ثم تفيقان على حياتهما بعادية لا تمنع تجنبهما متابعة ما تبقى من كأس العالم، لأنه صار ذكرى عالقة في زوريهما يمنع عنهما الهواء. لا بأس يا أوروبا. شمال إفريقيا لها مكان في هذا العالم الكروي. وقد تفوقت، والحلم لم يزل بعد.

والحلم رقيق، كما العروبة التي أعرفها الآن. بأنها تتسع للتسامح في الأديان وفي الهوية وفي الإثنية وفي المعتقدات. تتسع للتنور والتنوع وتعدد الاحتمالات. بأنه، حين يلتقي عربيان ولو صدفة، في غربة بعيدة، يجري بينهما حديث بالعربية لطيف، يتنازل فيه كل طرف عن العصي في لهجته، كي يتواصل. ويكون الحديث موسيقى في الغالب، ويكون شعر وروايات، واختلاف اللغات في التسميات، ومطابخ، وذكريات عن مدن، وانطباعات عنها، ونكهات واختلاف في البهارات ولقاء عند انتماءات وتهكم على مخارج الحروف، وربما، فقط ربما، لقاء عند الفخر بفوز المغرب على إسبانيا، ورفع لاعبيه علم بلد آخر غير بلدهم، من دون أي شعور بالذنب، فهي ليست المرة الأولى التي يفعلونها، كما أن الراية ليس حكراً على المغرب أو فلسطين، بل تتمدد فوق بلاد عديدة، وفي قلوب شعوب كثيرة.

ما همنا الآن، ها هو اللاعب المغربي يتحضر لركلة الجزاء. يتقدم. يشوط الكرة. يسجل. فاز أسود الأطلس. ديما ديما مغرب.