وزارة التموين السورية..وإنجازها على السوشال ميديا

إياد الجعفري
الأحد   2022/12/04

من الإنجازات الملفتة التي يمكن أن تُحسب لوزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك (التموين) في حكومة النظام السوري، أنها تمكنت من رفع حجم التفاعل مع صفحتها الرسمية في "فيسبوك"، بصورة نوعية، خلال اليومين الماضيين. إذ قفزت التعليقات على منشوراتها من بضع تعليقات في المعتاد، إلى المئات في المنشورات الأخيرة. أما على أرض الواقع، فكانت الوزارة منفصلة تماماً عن معيشة الناس. ففيما كادت الحياة -ممثلةً بأهم مظهرين لها، الكهرباء والنقل- تُشل تماماً، جراء الشح غير المسبوق في المحروقات من مصادرها الرسمية، قررت "التموين" مكافحة السوق السوداء التي تقدم للسوريين خيار استمرار تلك الحياة، وإن بحدودها الدنيا، وبكُلفٍ باهظة. 


ووفق مبدأ "قتل الناطور بدل الحصول على العنب"، قررت "التموين" رفع سيف القانون وتسليطه على مُشتري الوقود من السوق السوداء. وحاولت الدفاع عن سياستها تلك، عبر سلسلة منشورات تسببت بعاصفة من الهجوم على الوزارة وسياساتها، دفعت تلك الأخيرة إلى الدفاع عن نفسها باستخدام الشعارات والمزايدات من قبيل مطالبة الاقتصاديين الذين ينتقدونها، بـ "صبّ جام غضبهم على الدول التي تفرض العقوبات على سوريّا وعلى لصوص النفط".


ولأن الوزارة تعلم أن الشعارات لا تدفئ الناس، ولا توفر لهم محروقات لتنقلاتهم الضرورية، قررت في منشور آخر، إعفاء الأفراد من تحذيراتها المتعلقة بشراء الوقود من السوق السوداء، التي عجزت عن ضبطها، رغم أن تجارها ينشرون عروضهم، وبأرقام هواتفهم الصريحة، عبر الصفحات المختصة، ويبسطون بضائعهم على قارعة الأوسترادات الدولية ومداخل المدن. وذلك قبل أن تعود الوزارة إلى سياسة "الإرهاب" باستخدام "القانون"، وإشهاره ضد كل من ينشر أو يكتب تأييداً أو تبريراً لمبدأ الشراء من السوق السوداء.


التحذير الأخير لم يلق أي صدى لدى المعلّقين على صفحة الوزارة الذين كانوا بالمئات، ودافعوا عن حاجة الناس للشراء من السوق السوداء، وكذلك حاجة المنشآت الاقتصادية للشراء منها أيضاً، ما دامت المحروقات غير متوفرة من مصادرها الرسمية، إذ أن البديل، هو شلل الحياة الاقتصادية وتوقف دورتها، وبطالة الناس.


تلك العبثية واللامنطق، اللذين تعاملت بهما الوزارة، مع أزمة شح غير مسبوقة للمحروقات في سوريا، كانت باباً مفيداً للجدل حول خفايا السوق السوداء، وتعقيداتها، في هذا البلد، بصورة أكثر جرأة من المعتاد، من جانب المعلّقين، الذين حمّلوا الوزارة ذاتها مسؤولية تفاقم الوضع، ما دفعها للكشف عن السبب الرئيس لهذه الأزمة. إذ قالت الوزارة في أحد منشوراتها، بصريح العبارة، إن توقف التوريدات النفطية ناتج عن ظروف "الأصدقاء" الذين يزودون سوريا بالمشتقات النفطية، في إشارة لإيران. ووصفت الوضع بأنه "ظرف قاهر يعالج من دون ضجة إعلامية". وهو ما يتفق مع تصريحات أطلقها وزير النفط، الخميس، قال فيها إن أزمة المحروقات هذه مستمرة منذ 50 يوماً، كنتيجة لتأخر التوريدات، وهو أمر لم يكن متوقعاً من جانب حكومة النظام.


والملفت أن الوزير حمّل العقوبات الغربية مسؤولية زيادة الضغط، وليس التسبب بنشوء هذا الضغط من الأساس. وهذه الإشارة تعني أن السبب الرئيس لهذه الأزمة، ليس احتجاز النواقل النفطية مثلاً أو العقوبات ذاتها، بل سبب آخر. وهي إشارة ترجعنا لظروف "الأصدقاء" في إيران، التي تعاني من احتجاجات شعبية عارمة منذ نحو ثلاثة أشهر. يُضاف إليها عامل مستجد لاحقاً، يتعلق باحتمال تجدد حرب الناقلات، بعد الهجوم الإيراني على ناقلة النفط المملوكة جزئياً لإسرائيل في بحر عُمان، قبل نحو أسبوعين.


وإذا كان عامل "حرب الناقلات"، قصير الأمد أو مؤقت، إن ارتأت طهران وتل أبيب تجنيب مصالحهما الاقتصادية في البحار، تبعات الصراع بين الطرفين، كما سبق وحدث، فإن عامل الاحتجاجات في إيران، قد يكون أكثر خطورة، إن كُتب لها التفاقم والاستدامة. ونتائج هذه الاحتجاجات تتبدى الآن في شلل جانب كبير من الحياة الاقتصادية في مناطق سيطرة الحليف السوري لطهران.


لكن هناك زاوية أخرى لهذه الأزمة، لا تتعلق فقط بسببها، ومدى استدامة هذا السبب، وبالتالي استدامة الأزمة ذاتها، بل يتعلق أيضاً، بسبب تفاقم هذه الأزمة في الداخل السوري. فالسوق السوداء تزداد نشاطاً، وتتوفر فيها المحروقات لمن يستطيع أن يدفع، فيما تتقلص المخصصات التي يتم تسليمها عبر المنافذ الرسمية. فمن أين تأتي محروقات السوق السوداء؟ ومن يتحكم بها؟ 


تجيب "التموين" على السؤال الأول، بأن محروقات السوق السوداء، مسروقة "بالمطلق"، إذ تُشترى بالسعر المدعوم، وتُباع بالسوق السوداء، بأضعاف السعر. واستخدمت الوزارة ذلك، لتبرير حملتها على تلك السوق، ومطالبة الناس والفعاليات بعدم الشراء منها، من دون أن توضح ما البديل. وهو ما يعبّر عن فشل ذريع في أداء "التموين" ووزارة النفط. فبدلاً من إيجاد حلول لمنع سرقة المحروقات المدعومة، تقوم هذه الجهات بملاحقة من يبيع حصته، وهي حقّه، بسعرٍ أعلى، لأسباب قاهرة، أبرزها، حالة الفاقة المتمادية في البلاد، التي تجعل عائلة تستغني عن مازوت التدفئة لشراء دواء مرتفع الثمن، مثلاً. أو انخفاض قيمة الدخل في قطاع الخدمات نتيجة انهيار القوة الشرائية للسوريين، إلى درجة جعلت بيع المازوت المدعوم المخصص لسيارات النقل العام، أكثر ربحية من العمل على نقل الركاب، كمثال آخر. 



أما السؤال الثاني: من يتحكم بالسوق السوداء؟ فتتجاهله وزارة "التموين". فهي أعجز بكثير من أن تقارب هذا الجانب. لكن نقاشات السوريين وجدلهم في صفحة الوزارة ذاتها، وباستفزاز من منشوراتها، كفيل بفهم ذلك. فمافيات محطات الوقود المغطاة من متنفذين في السلطة، والتي تسلّم السوريين حصتهم المدعومة أقل ببضع ليترات، تحصد كميات هائلة من المحروقات تضخها في السوق السوداء، بالأسعار التي تريد، من دون أن يستطيع أحد، وضع حدٍ لهذه الظاهرة. ورغم إغلاق الوزارة لعدد من المحطات، خلال الأيام الفائتة، إلا أن ذلك لم يمنع استمرار محطات رئيسية أخرى بالعمل وفق الآلية نفسها، وبصورة علنية، في كثير من الأحيان، مستندين على الجهات الداعمة لهم داخل السلطة، مما جعل حملات الوزارة على بعض المحطات، وعجزها عن ضبط البقية منها، تصب في مصلحة هذه الأخيرة، إذ زادت من شح الوقود، لصالحها.


وهكذا، ومع استمرار الاحتجاجات في إيران، ونُذر تجدد حرب الناقلات، تتفاقم أيضاً ملامح الفشل الحكومي في سوريا، لينحصر دور وزارة كـ "التموين" بالسوشال ميديا. وهكذا تكتسب سوريا في ظل نظام الأسد، معياراً جديداً من معايير "الدولة الفاشلة"، يتجاوز العجز عن فرض "السيادة" على أرض الدولة، والعجز عن إنفاذ القانون في الكثير من جغرافيتها، إلى مستوى أبعد، يتجلى بالعجز عن توفير أدنى مقومات الاستقرار الاقتصادي والمعيشي.