ترامب المرشح..لقطف ثمار تخريبه

محمد العزير
الأحد   2022/11/13

يستعد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لإعلان ترشيحه لرئاسة الولايات المتحدة للمرة الثالثة يوم الثلاثاء المقبل، محاولًا كتم الأصوات المحافظة التي بدأت، ولو بشكل خجول، توجيه اللوم اليه على النتائج غير المشجعة التي حققها الجمهوريون في الانتخابات النصفية الأسبوع الماضي، وقطع الطريق على منافسيه المحتملين في الدورة التمهيدية لإنتخابات العام 2024، خصوصًا حاكم ولاية فلوريدا والنجم الأكثر بروزًا في اليمين الديني رون ديسانتيس الذي أعيد انتخابه بأغلبية كبيرة ولا يخفي طموحه لتبوء المنصب الأول. سارع ترامب مع ظهور نتائج الانتخابات المخيبة لآمال حزبه الى توجيه المزيد من الدعوات للصحف والمؤسسات الإعلامية لموافاته في منتجعه الخاص في مارالاغو لمتابعة "حدث كبير" سبق أن ألمح اليه الى حد التصريح خلال جولاته الأخيرة لدعم المرشحين الذين حصلوا على تزكيته، وهو خوض غمار انتخابات الرئاسة التي ربحها عام 2016 وخسرها (دون اعتراف) عام 2020. 

تفيد تقاليد السياسة في أميركا بأن الرئيس الذي ينهي ولايتين أو يفشل في تجديد ولايته الأولى (باستثناء فرانكلين د. روزفلت 1882-1945، الذي ترشح اربع مرات ونجح، وذلك بحث آخر)، يتفرغ لإنشاء مكتبة وطنية تحمل اسمه ويتبنى قضية أو يمارس هواية لكنه ينأى بنفسه عن التنافس الحزبي الذي يتركه لشأنه. لكن لا شيء في كل سيرة ترامب يوحي بأنه تقليدي أو أنموذجي أو منطقي. ربما كان هذا المكّون الأساس لنجوميته التي راقت لذهنية أميركية تدعي الفرادة والريادة، وجعلته يتصدر من جديد كلما أعتقد الآخرون أن نجمه آيل الى الأفول منذ ذيوع التسجيل الشهير له عن "إمساك أية امرأة من فرجها ...ولن تقول شيئًا إن كنت مشهورًا" الى محادثته الهاتفية مع رئيس أوكرانيا ليطلب الطعن في منافسه جوزيف بايدن، وصولًا الى تنظيم وقيادة اقتحام مبنى الكونغرس في السادس من كانون الثاني/ يناير 2021.

تقتضي الموضوعية الإعتراف بأن ترامب ليس بهلوانًا أو مجرد سياسي محظوظ، فهو وإن قال غير ذلك في خطاباته وتغريداته، ابن شرعي لنظام يقوم على النفوذ والشهرة والحيازة بصرف النظر عن النصوص والحقوق والمبادئ. من حق ترامب الذي وصل الى أهم منصب في العالم أول مرة يجرب فيها السياسة، أن يظن أنه لا يخطئ. لكن من الضروري التأكيد على أنه دخل السياسة على أرض حبلى باحتمالات الفاشية والعنصرية والإقصاء بعد عقود على إختيار المحافظين للتوجهات الإستبدادية الصريحة بدلّا مما بشرت به التجربة الأميركية من ديمقراطية (الناس خلقوا متساوين، وانسان واحد صوت واحد) وعلى ركونهم الى الخوف من الآخر (على طريقة أوروبا البيضاء مطلع القرن الماضي) إزاء الحقائق الديمغرافية التي انتجتها أصلًا الحاجة الأميركية الى مدد بشري من اليد العاملة والكفاءات والمبدعين لتلبية اقتصاد عملاق لا تكفيه الهجرة الأوروبية المسيحية البيضاء. ترامب على الرغم من مظهره الارتجالي يقرأ استطلاعات الرأي ولديه فريق من الخبراء والمستشارين الذين يزودونه بآخر المعلومات والصيحات.

في المبدأ لا يمكن اعتبار ترامب محافظًا أو ليبراليًا. هو مصلحي بدأ مع الدفاع عن ريتشارد نيكسون وتماهى مع رونالد ريغان لكنه تبرع لبيل كلينتون والكثيرين من الديمقراطيين في ولايتي نيويورك ونيوجرسي حسب مصالحه العقارية، لكنه عندما دخل المعترك السياسي كان خياره، وهو الأشقر الألماني الأصل، واضحًا. كانت مقولة "الرجل الأبيض الغاضب" سائدة في الأوساط المحافظة منذ الثمانينات، وذلك لصد النضوج الديمقراطي الذي أتاح للنساء والأقليات العرقية والدينية والجنسية المجاهرة بحضورها في الميدان العام. جاء ذلك بعدما حسمت أميركا في الستينات من القرن الماضي خيارها العنصري وأقرت قوانين الحقوق المدنية والسياسية. بدل أن ينافس الحزب الجمهوري الذي أسسه ابراهام لنكولن وانهى حقبة العبودية في أميركا في الواقع الجديد، قرر أن ينكص على اعقابه ويسعى لتثمير المشاعر العنصرية خصوصًا في الجنوب الذي لم يشفَ من ثارات الحرب الأهلية حتى جسّد ممثل الدرجة الثانية الواشي بزملائه رونالد ريغان التحول "الجنوبي" وصارت الهوية البروتستانتية المذهب، الأوربية الأصل، والبيضاء العرق مبتدأ السياسة وخبره.

لم يكن لدى المحافظين وهم يواجهون الحقائق الديمغرافية والثقافية الجديدة سوى الإتكال على سطوتهم المؤسسية الراسخة وتجييرها لخدمة مصالحم الانتخابية. استندوا الى ثلاثية تكوين الدوائر الانتخابية، ترهيب الناخبين، والقضاء المناسب لتحقيق أهدافهم. بدأوا بتقرير من يحق له انتخاب الممثلين عبر ما يعرف بالـ "جيريماندرينغ".  وللـ “جيريماندينغ" التي يهوى وليد بك جنبلاط استخدام تعبيرها في لبنان قصة طريفة تبدأ من أميركا. في اللغة، ووفق قاموس "أكسفورد" تعني "التحكم بحدود الدوائر الانتخابية لتفضيل حزب سياسي على آخر" وعمليًا تعني تحديد الدوائر بما يخدم الأكثرية التي تقرر ذلك من خلال مجالس نواب الولايات التي تتمتع بحق حصري لتقرير مصير الانتخابات. يعود الإسم نفسه الى دمج لغوي بارع بين اسم أول من اعتمد هذا الأسلوب حاكم ولاية ماساشوستس البريدج غاري الذي استخدم سلطته القانونية عام 1812، لترسيم دائرة انتخابية تناسب مصلحة حلفائه في مقاطعة جنوب اسيكس التي تضم مدينة بوسطن. جاء شكل الدائرة مشابها للسمندر الخرافي الذي يلفظ بالإنكليزية "سلامندر" وأدخلته صحيفة "سالم غازيت" التاريخ من خلال كاريكاتير يضيف الى الدائرة رأس ديناصور وقائمتيه ليعطي المعنى المطلوب. منذ ذلك الحين يعتمد الحزبان الكبيران في أميركا هذا الأسلوب، وإن كان بفارق واضح. يستخدمه الديمقراطيون لتوسيع مشاركة الملونين و المهاجرين والأقليات، بينما يستخدمه المحافظون بالعكس. 

يعتمد أسلوب تخويف الناخبين على معطيات كثيرة أهمها أن جل المواطنين الجدد الذين حازوا على حق التصويت حديثًا جاءوا من دول ذات أنظمة قمعية ويكفي تخويفهم بأية طريقة ليعزفوا عن المشاركة من باب "ابعد عن الشر وغن له". وهناك بموازاة هذه الفئة فئة أكبر وهي الملونين من أميركي المولد، وخصوصًا السود، والذين تنصب الدعاية الانتخابية على تحذيرهم من ان الإقتراع سيؤدي الى ملاحقتهم قانونيًا أو استدعائهم لخدمات عامة لا يريدونها. من الأمثلة على ذلك قيام مجموعة محافظة بتوجيه رسائل صوتية مزورة للناخبين في منطقة ديترويت بولاية ميشيغن لتحذيرهم من مخاطر الإقتراع. تمت ادانة اثنين من الحزب الجمهوري في هذه القضية التي لا يبدو انها توقفت حيث شهدت الانتخابات الأخيرة الكثير من الدعايات والإعلانات التي تحذر الملونين من الإقتراع.

أما دور القضاء فحدث ولا حرج. منذ رئاسة رونالد ريغان (1980 – 1988)، تحولت التعيينات العدلية الى امتحان عقائدي حزبي لا يحققه سوى من سار على منهاج اليمين الديني. من سوء الطالع أنه كان لترامب فرصة تعيين ثلاثة من قضاة المحكمة العليا التسعة. لكن لا عجب في أن تعمد المحكمة التي طالما نظر اليها الأميركيون برهبة واحترام الى الجنوح الفاضح الى السياسة. ففي أقل من عقد تراجعت المحكمة العليا عن قوانين الحقوق الدستورية والشخصية ولا سيما حق الإنتخاب والإجهاض، فيما يجد ترامب وانصاره في بعض المحاكم التي عيّن قضاتها بنفسه، أو من سبقوه من محافظين، ملجأ مريحًا يستفيد من استقلالية القضاء ويفيدهم.

لا شك في أن ترامب دفع التوجه المحافظ الى مداه الأقصى، ولا شك في أنه سيراهن على ذلك.