السابق

جهاد بزي
الإثنين   2022/10/31
عون خلال إلقائه كلمة قبل مغادرة قصر بعبدا (علي علوش)


في الأيام الأخيرة من عهد الرئيس ميشال عون، راح مكتب الاستعلامات في القصر الجمهوري يتلقى اتصالاً يومياً من مجهول يعرف نفسه بأنه مواطن لبناني، يسأل الموظف بكل تهذيب: متى سيصير فخامته رئيساً سابقاً، فيجيبه الموظف: آخر تشرين الأول.
التكرار اليومي للسؤال أزعج الموظف في نهاية المطاف فنهر المواطن قائلاً له إنه إما يسخر منه شخصياً، وإما يسخر من فخامة الرئيس. فرد المواطن، بالتهذيب ذاته، لا هذه ولا تلك. أنا فقط أريد أن أسمع نفسي أقول الرئيس السابق.. الرئيس السابق.
يمكن أن نختم هذه النكتة المكررة بتصرّف، بأن نقول إن الموظف قطع الاتصال غاضباً، لكنها ستفقد رونق أن تبقى مفتوحة على ما ظل يردده المواطن اللبناني مرة بعد مرة. الجنرال صار، حقاً، رئيساً سابقاً.
نهاية العهد ليست عيداً وطنياً، لكنها بدت وهو يغادر قصر بعبدا، عيداً شعبياً لكل من لم يرتدِ اللون البرتقالي ويذهب ليلوح بعلم التيار عند بوابة القصر. عيد لم تنفع معه محاولات العونيين إخفاءه بالضوضاء والضجة، فقد سبقتهم الفرحة العارمة التي سرت كعدوى بين اللبنانيين في بلدهم أو حيث كانوا في المهجر، هؤلاء الذين بلغ بهم يأسهم من السنوات الست الأخيرة أن لاذوا بالتطير، حيث لم يعد هناك ما يفك النحس العميق الذي أصاب بلدهم إلا مرور الزمن.
لكن العونيين أنفسهم كانوا غير مقتنعين بما يقولونه. لجأوا إلى تشاوفهم المعهود، وعبارات التمجيد الخاوية، والشعر الرديء، وبالطبع، إلى تأكيد نبوءات لا يمكن تكذيبها، لأن لا معنى لها قط، مثل أن التاريخ سينصف العهد حتماً، إن لم يكن اليوم، ففي المستقبل.
مع ذلك، فإن تاريخ العهد قد كُتب في يوم الرئيس الأخير، بينما يستعجل الخروج من ثوب الرئاسة الخانق، ليعود إلى ثوبه الأول والأخير، زعيم نزق الطباع متأفف، يظن فعلاً أنه مختلف عن الباقين، لا يطيق كلمة "لا"، إن في حزبه أو بين مناصريه، ويعتقد أن موهبته المتواضعة في الإنشاء الوطني ما زالت تلقى من يصدق أنها "لبنانية"، مثل كلمات الأغاني، وليست مجرد خطاب طائفي صرف آخر.
في نهاية عهده، وبينما يوزع الأوسمة كمكافأة لمن كان الأكثر نشاطاً في التصفيق له، ويعدد أسماء الشجر ويصف مشاعره إزاء كل شجرة بحسب نوعها، كتب التاريخ أن الجنرال لم يكن، مثلاً، مقنعاً في أنه رئيس لكل اللبنانيين، بل بالكاد رئيس مناصريه، ومجموعته من المحظيين. كتب التاريخ أيضاً، أن عون لم يجرؤ مرة على الاختلاف مع حليفه، حزب الله، حتى في وجهة نظر الحزب، لا بل لعب دور الممثل الرسمي له في السياسة، داخلية كانت أو خارجية. كتب التاريخ أن الجنرال المثقل بالمشاريع العظيمة منذ العام 1988 جاء إلى الحكم وغادره من دون أن يكون لديه مشروع واحد حقيقي، إلا النفخ في روح الأزمات، وتعميقها، ورفعها إلى مستوى النكبات، ثم إلقاء اللوم على المؤامرات المستمرة ضده وعلى الذين لم يسمحوا له، وعلى الصلاحيات المسروقة، وصولاً إلى عدم قدرة العقل اللبناني العادي على فهم ما الذي يدور في ذهنه.
غموض ذهن الجنرال حقيقي، زاده أنه حين صار رئيساً، بات يحسب كثيراً، قبل أن يحكي، فبات معظم ما يقوله بلا منطق واضح، مع أن تركيب الجملة هو نفسه في معظم اللغات. فعل وفاعل ومفعول به. لكن عون، المهووس بما سيكتبه التاريخ عنه، راح يدخل في أعماق ذاته، حتى انفصل تماماً عن الكوارث المتلاحقة خلال السنوات الست، ولم يقل يوماً ما قد يخفف عن اللبنانيين رعبهم، ثم، حين خرج من رحلته الداخلية هذه، تبين أنه كان يفكر بحسنات الشجر.
هو، للمفارقة، لن يجد وقتاً كافياً لتأمل الشجر في منزله في الرابية، إذا صدق في وعده بأن مسيرته مستمرة. "عون راجع"، من جديد، كأن الزمان عجلة تدور في مكانها ولا تكف مآسيها عن الرجوع. بقاؤه في الحياة السياسية حقه الطبيعي، لكن التاريخ هو الذي سيقع في مشكلة، إذ أن هذه الصفحة لم تُطو بعد ليختلي التاريخ بأوراقه ويبدأ بالكتابة عن الجنرال. اللبنانيون أيضاً في مأزق. فقد لا يعطيهم الجنرال فرصة لالتقاط أنفاسهم بعد هذا الجري المنهك طوال السنوات الست الماضية. لن يسمح لهم حتى باستراحة بسيطة يستمتعون خلالها بترداد لقبه الجديد، "السابق" الذي لم يعد لديهم غيره ليطمئنوا مؤقتاً إلى حاضرهم. واتصال المواطن المجهول لم يعد ممكناً. فمكتب الاستعلامات في المنزل الجديد لا يجيب إلا على اتصالات العونيين الأوفياء حصراً، والنكتة المكررة التي كانت تصلح في بعبدا، لم تعد تصلح في الرابية.