محكمة شعبية لانفجار المرفأ

مهند الحاج علي
الإثنين   2021/08/02

مضت سنة كاملة على جريمة انفجار الرابع من آب (أغسطس) العام الماضي في مرفأ بيروت، وما زالت المحاسبة بعيدة المنال، إن لم تكن مستحيلة اليوم خلف ستار الحصانات والمقامات الأمنية والسياسية والطائفية.

والتعويل على القضاء المحلي لضمان العدالة، دون أن يسبق ذلك تغيير في موازين القوى السياسية، مبني إما على سوء تقدير أو على تواطؤ مع المتورطين في الجريمة، لإبعاد كأس التدويل عنهم. ذاك أن المطلوب اليوم هو القفز فوق المؤسسة القضائية والأجهزة الأمنية وما تبقى من دولة في لبنان، والانطلاق باتجاه تأسيس محكمة "شعبية" خارج البلاد، لإجراء تحقيق مستقل وتوثيق ملابسات الجريمة والمتهمين فيها.

المحكمة الشعبية أو محكمة راسل، لا تملك الصلاحية لملاحقة المتورطين، لكنها كفيلة بإيضاح الوقائع وتحديد المسؤوليات، بمعزل عن الوضع السياسي والقضائي العام، والاستماع للشهود والضحايا، وإجراء عملية شفافة وعلنية، والأهم إطلاق نقاش واسع وإبقاء القضية حيّة في الاعلام للضغط على المجتمع الدولي والقضاء اللبناني وعزل المقصرين والمتورطين، وربما حتى فرض عقوبات عليهم جميعاً.

النموذج الأول لهذه المحكمة، والذي أسس له الفيلسوف برتراند راسل لتوثيق الجرائم الأميركية في فيتنام، ترك أثراً في توجهات الرأي العام والضغط على الساسة، وأطلق نقاشاً حولها (ما زال قائماً إلى اليوم). وهذا النموذج عُمم على قضايا عديدة، منها على سبيل المثال، جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين، وأيضاً جريمة القتل الجماعي في سجن إيفين في ايران. والأخيرة انتهت الى تقرير واسع نُشر على الانترنت، يُوثق الجريمة ومراحلها والأسماء المتورطة فيها، وأيضاً شهادات بعض الشهود وعائلاتهم. 

هذه المقاربة باتت ضرورية اليوم، ليس فقط من أجل تحقيق بعض العدالة المنشودة لضحايا المرفأ وعائلاتهم المنكوبة، بل أيضاً لأن الجرائم بالإهمال أو تلك المباشرة (الجرائم المالية وقبلها فظائع الحرب الأهلية) متواصلة. وجريمة المرفأ هي حلقة في سلسلة لن تنتهي هنا، لا بل يبدو أننا أمام موجة جديدة من الاعتداءات المختلفة، منها طبعاً التواطؤ مع المصارف لنهب الودائع من خلال صرفها بالليرة اللبنانية وطبع المزيد من العملة للتغطية على ممارسات مصرف لبنان وحاكمه الأبدي.

من الواضح أن البلد اليوم لا يتجه الى حلحلة أو إدارة أفضل لأزمته الاقتصادية والمالية لوقف الإنهيار، بل الأرجح أننا أمام جرائم كبرى ستُرتكب بحق الناس، وتترك معها ضحايا كُثر ممن لا يملكون ثمن الخبز أو أقساط المدارس وغذاء الأطفال. هذا واقع تُشارك هذه السلطة في انتاجه وبشكل يُساعدها على الخروج من هذه الأزمة ليس بأقل خسائر ممكنة، بل بأعلى نسبة أرباح ولو على حساب الأبرياء وجوعهم وفقرهم ودمائهم.

من الضروري أن نضع المطالبة بالعدالة في قضية المرفأ وفي أي جريمة أخرى، في سياق مهمة وقف سلسلة الاجرام المتواصلة لدى هذه السلطة، أو كبحها وليس المحاسبة في هذا الحدث دون غيره. 

ذاك أن من ارتكب جريمة المرفأ ليس مسؤولاً قصّر هنا أو هناك، بل ماكينة كاملة فيها كل مكونات السلطة من زعماء طوائف ورؤساء ومدراء أجهزة أمنية وموظفين كبار من أزلامهم وأيضاً قضاة كبار. وهذه الماكينة لا تترك ورائها الا الخراب، ومن الصعب أن نعهد بمكافحتها لفرد يعمل في مؤسسات خاضعة لإرادتها.