حج العونيين إلى موسكو

بسام مقداد
السبت   2021/06/19
© Getty

بعدما فقد العونيون أي أذن غربية تصغي إليهم، تنشط حركتهم بإتجاه موسكو في الفترة الأخيرة. وكان آخر وفودهم إلى موسكو في أواخر الشهر المنصرم وأوائل الجاري،  برئاسة مستشار رئيس الجمهوية النائب آمال أبو زيد، رافقه أحد موظفي الخارجية اللبنانية ورجل أمني وصحافيان ومساعده الروسي. وعلى الرغم من أنه لم يرشح شيئ عن هدف زيارة الوفد إلى موسكو، إلا أن طبيعة تشكيل الوفد، الذي طلب مصدر "المدن" في موسكو عدم نشر أسمائهم، تشير إلى أن المحادثات لم تكن في حقل أعمال أبو زيد التجارية في موسكو. فمنذ لقاء الحريري مع لافروف أواسط آذار المنصرم في الإمارات، وإعلان موسكو تأييدها الصريح  لضرورة تشكيله الحكومة من دون إبطاء، وجبران باسيل يسعى جاهداً لتوسيع مكان لعراقيله عملية التشكيل في موقف موسكو، وهي المهمة التي تنكبها أبو زيد في زياراته  إلى روسيا. والعونيون في تعقبهم الدائم للحريري، لا يتركون مكاناً يزوره  ولا تزال متاحة لهم إمكانية الوصول إليه إلا ويستغلون هذه الإمكانية، كما هي الحال مع موسكو التي يكثرون زيارتها. 

موسكو لا توصد أبوابها بوجه أي من أطراف النزاعات في المنطقة في إطار دورها كوسيط، هي حريصة على التمسك به، مما يتيح لها إقامة علاقات مع جميع الأطراف ومن دون أن تنخرط في أي من هذه النزاعات، لكن دون أن تتخلى عن إتخاذ موقف من النزاع نفسه. غير أن دور الوسيط هذا ليس مؤشر قوة تتمناها موسكو، بل لقصور أدوات الضغط المتوفرة لها على الأطراف المختلفة. ولم يعد بوسع أي لاعب سياسي في المنطقة تجاهل الوجود الروسي فيها والمدعم بالطيران الإستراتيجي في حميميم القادر على حمل أسلحة نووية، وليس فقط بقواتها العسكرية في سوريا. وهذا بالذات ما يمنح روسيا "أهلية" لعب دور الوسيط خاصة في لبنان، وذلك لانخراط قوى أساسية لبنانية في الصراع السوري، ولما يوجد من تمددات للنظام السوري داخل قوى سياسية لبنانية، وتشابكات قوى أخرى مع المعارضة.

لكن ما يُخشى منه في لبنان هو أن تستغل الوجود الروسي فيه شركات روسية ثمة علامات إستفهام حول أعمالها، وتجعل منه قاعدة لنشاطاتها في المنطقة. فقد علمت "المدن" من مصدر وثيق الإطلاع على الوضع الروسي في لبنان والمنطقة، وتمنى عدم ذكر إسمه، أن وفداً من شركة روسية تعمل في مجال الغاز والنفط ومجالات أخرى في سوريا وتشملها العقوبات الأميركية، سيصل إلى لبنان في 27 من الشهر الجاري ليفتتح مقراً للشركة في بيروت ويعين ممثلاً روسياً دائما للشركة. 

روسيا ليست جديدة الإهتمام بالنفط اللبناني، فهي  شريك في التنقيب عنه وتوسيع خزاناته في طرابلس، بل وأعلنت نفسها العام الماضي "حامية" النفط اللبناني وضامنة أمنه. فقد نشرت نوفوستي السنة الماضية ("المدن" 11/3/2020) نصاً بعنوان صادم بتبجحه "روسيا تحصل على أحشاء البحر المتوسط"، وأكدت أن شركة "نوفاتك" التي تشارك الشركتين والإيطالية في التنقيب الإستكشافي عن الغاز والنفط اللبناني "سوف تشكل سياسة المنطقة". وتذهب الوكالة في شرح مسهب لتأكيدها هذا، لكن دون أن تتضح في نهاية الشرح لماذا وكيف ستشكل الشركة سياسة المنطقة، ولماذا ستنفرد وحدها في ذلك دون الشركتين الفرنسية والإيطالية.

وذهبت الوكالة بعيداً في توقعاتها لحجم تأثير شركاتها في لبنان، فأكدت أن إتفاقية لبنان مع شركة "روسنفط" لتوسيع خزانات النفط في طرابلس، تجعل لبنان "يأمل كثيراً" في أن يتيح الوجود الروسي العسكري التقني في المنطقة إمكانية لإحياء خط أنابيب النفط من العراق، والذي قُطع في المرة الأولى بسب الدخول الأميركي إلى العراق، وقُطع للمرة الثانية بسبب الحرب الأهلية في سوريا. 

وتقول الوكالة بأنه إذا ما ظهرت لدى لبنان فجأة بعض الكميات من النفط، وإذا لم تتسع طاقات طرابلس لاستيعابها، يمكن حينها توجيهها إلى مرفا طرطوس "القريب جداً" من طرابلس، وحيث "بمحض الصدفة" يوجد هناك مقر الوحدة العسكرية الروسية. وترى نوفوستي أنه، إذا ما قرر لبنان مد خط أنابيب للنفط بين المرفأين، ستحول لبنان إلى "متحكم بالظروف، أما إذا لم يقرر مد هذا الخط، تبقى طرطوس، بالحد الأدنى، ضمانة بأن لا تبرز عند أي رأس حام رغبة في التطاول على ملكية لبنان و"روسنفط" و"نوفاتك" الروسيتين. ويراهن لبنان على النفط والغاز وتصديرهما لتحسين صورته، وانتشال إقتصاده المتردي. 

واختتمت نوفوستي حينها مقالتها بالقول :"إجمالاً ، المنطقة تأمل بمعجزة ...ووراء الكواليس تُسمع من جديد اللغة الروسية". أجل، المعجزة التي تأمل بها المنطقة هي إذاً روسيا "الضمانة والحماية"، وليس لسوريا وثرواتها فقط، بل ولنفط لبنان أيضاً .

وفي مقالة تتهم ضمناً العونيين وكل حكام لبنان وطبقته السياسية بإضاعة لبنان، نشرت صحيفة "NG" في الأسبوع الأول من الشهر الجاري مقالة كتبها رئيس تحرير النشرة الإلكترونية "روسيا للجميع" في وكالة أنباء "روسيا اليوم" التتري راديك أميروف، وعنونها "بيروت غارقة في الحنين. أي بلد أضاعه اللبنانيون". كتب الرجل نصه بلغة مرهفة رقيقة، وهو عبارة عن مشاهداته وأحاديثه مع لبنانيين خلال زيارة قام بها لبيروت في وقت لم يحدده. ويقول بأنه حين تأتي إلى لبنان، يتولد لديك إنطباع حزين بأنك تأخرت في المجيء إلى عيد كبير، لم يتبق لك منه سوى روائح لذيذة وأصوات ماض خافتة تتردد صدىً في ذكريات اللبنانيين: "أية سمعة كانت للبنان، فهو كان سويسرا الشرق الأوسط. الراحة، الأمن، التهذيب واللطف في كل مكان. أي بلد أضعناه بلا رجعة...".

الحرب الأهلية لاتزال تذكر بنفسها حتى يومنا هذا، والأجيال التي ولدت بعدها، كأنها لم تترعرع في الحقائق الحديثة مع كل التيك توك والميسنجر، بل ترعرعت على الحنين والنوستالجيا للبنان السابق الذي مضى، لبنان المسالم الهادئ المثقف الذي يحترم الإنتماء الديني لكل مواطن. 

في الحوار مع الشباب لا يحدثونك عن بلدهم اليوم وكيف هو، بل كيف كان لبنان لثلث قرن مضى. حتى طالب معهد الفنون ذو العشرين عاماً يحدثك كيف كان كورنيش بيروت قبل زمن الحرب، يحدثك عن البحر النظيف، اللغة الفرنسية التي كانت تسمع في كل زاوية. في عيون الطالب تنعكس صورة لبنان السابق، والحنين يغمره، ولا تفهم هل هو حزن على البلد الذي لم يعش فيه، أم البلد الذي سيعيش فيه. لكن أبداً ليست بيروت الحالية ولبنان الحالي بكل مشاكله، هو الهروب من نفسه. 

لبنان بلد شرق أوسطي، لكن كم يتناقض مع جيرانه. لا يزال الكثير من الرجال الأنيقين هنا حتى اليوم. موظف مكتب يركن سيارته الرينو ويدخن سيجارة بعرض الإبهام، عليه قميص أزرق وربطة عنق، ويرتدي بنطالاً مكوياً لدرجة يمكنك حلاقة ذقنك بخطيه الحادين. والحذاء! الحذاء ملمع حتى البريق، وهو ما لا يمكنك مصادفته سوى عند الشيشان في غروزني أو في موسكو.

صاحب المقهى الذي أجلس على شرفته وأسكب الشاي، يراقبني بايتسامة ساخرة، ثم يقترب مني حاملاٍ الآيس كريم: "أجل، هكذا نحن. فينا التهذيب الغربي والتأنق الشرقي. الآيس كريم مجاني! ولا تتشكرني".

هذه الصورة المتخيلة للبنان مازالت موجودة بالفعل لدى الكثيرين من الروس ومن أبناء أوروبا الشرقية. لكن الرجل يعود فيتبعها بصورة عن بيروت الحالية الواقعية ومشاكلها وأزماتها . لكن هذا القسم من المقالة لا يختصرها، بل يتبعها الرجل بقسم آخر يتحدث فيه عن الروس البيض الذين وفدوا لبنان في سنوات الحرب الأهلية الروسية، او وفدوا مع الفرنسيين وإنجازاتهم في لبنان، وهو ما سنعود إليه لاحقا".