الجنرال في عزلته الاخيرة

ساطع نور الدين
الخميس   2021/03/25
منذ أن أطلق قذيفته الاولى في حرب الالغاء ثم في حرب التحرير، في ثمانينات القرن الماضي، وحتى اطلاق قذائفه الاخيرة على بيت الوسط، مقر رئيس الوزراء المكلف، لم يكن الجنرال ميشال عون يوماً، دقيقاً في التصويب المدفعي..ولا السياسي. جراء ذلك، سقط ضحايا كثيرون، آخرهم رئاسة الجمهورية التي يستبسل اليوم في الدفاع عنها، ولا يمانع في تسليمها ركاماً، كما تسلمها للمرة الاولى.

ما زال الجنرال هناك، في تلك المرحلة المشؤومة، التي دخل فيها السياسة من بابها المخلع، قبل ان تنفتح أمامه، وبالصدف الالهية، أبواب السلطة الشرعية، التي يظن أنها تُختزل به وحده، ويعتقد أن ما فات لم يكن سوى ضلال، وما هو قائم اليوم ليس سوى تصويب لمسار طويل من الاخطاء بحقه الشخصي.. الذي لا يحتمل المحاسبة ولا حتى المراجعة لذلك الحق المفترض، ولا للاخطاء التي إرتكبها هو بنفسه، وباتت تشكل خطراً على الجمهورية كلها.

عندما أطلق الجنرال القذيفة الاولى، كان الشائع يومها أنه لم يكن يتصرف بمفرده وبدافع طموحه الفردي، ولا حتى بحرصه الوطني. بل كان الشك عاماً في أنه مدفوع ومغطى من دول عظمى لا تقف في العادة متفرجة على ما يحصل في لبنان، ومن حلفاء إقليميين لا يدارون طموحاتهم اللبنانية. لكن ذلك الشك لم يصمد طويلاً، ولم يبق من حليف للجنرال سوى عراق صدام، ولو بصيغة العطف، لا بمستوى المخطط الآتي من بغداد.

في القصف الاخير الذي ينفذه، على بيت الوسط، وتالياً على جميع البيوت السياسية، طُرح السؤال مجدداً : هل من نصير للجنرال في معركته الجديدة-الاخيرة؟ هل تكذب الدول الكبرى من فرنسا الى أميركا الى الفاتيكان وهل تخادع البلدان العربية في مجاهرتها بالخلاف مع الجنرال والافتراق عنه؟ ليس هناك حتى الان على الاقل من دليل على أن الجنرال يتمتع بدعم أحد لا في الداخل ولا في الخارج، الذي لا يتوانى عن التحذير من مغبة ما يفعله، ولا يتردد في تأييد خصومه السياسيين، ولو على مضض.

وحيداً يقاتل الجنرال هذه المرة، كما قاتل في جميع معاركه السابقة، التي لم يربح فيها سوى معركة واحدة، هي رئاسة الجمهورية. وما أن بلغها حتى داس على أطراف جميع الذين ساهموا في وصوله الى قصر بعبدا. فأضاع الرصيد الكبير الذي وضعه حزب الله في حسابه، وإستنفد شراكته الابرز، مع الرئيس سعد الحريري، وأسقط تفاهمه الحاسم مع القوات اللبنانية، ووضع الكنيسة المارونية وبطريركها في موقف حرج..

ما يشاع الآن عن أن الجنرال أضاع الطريق، منذ أن فكر وخطط للتوريث، يحتاج الى الكثير من التروي والتدقيق. الاقرب الى الصواب أن الجنرال أزاح جميع من حوله، وأبعدهم عن ساحة المعركة التي قرر بكامل وعيه وإرادته أن يخوضها لوحده، ومن أجل آخرته.. غير آبه حتى بالخسائر والاضرار الكبرى التي لحقت بالوريث وبالعائلة وبالتيار، والتي لم يعد يمكن تعويضها.

وما يقال الآن عن أن الجنرال فقد رشده، نتيجة ما يراه تمرداً او عصياناً لأوامره العسكرية، لا يحتمل التسامح، ما دفعه للجؤ الى الفرنسيين والاميركيين والسعوديين، طالباً إزاحة المتمرد من دربه، وإستبداله بأي مرشح آخر لرئاسة الوزارة.. مع ما يعنيه ذلك من سؤ فهم وسؤ إدراك لمواقف هؤلاء الفرقاء المعلنة والمعروفة والتي لا تكن له أي ودٍ او تقدير.

لم يعد الجنرال يغامر بحسابه الشخصي، الذي ينضب مع مرور الزمن. ولا هو يقوم بعملية إنتحارية، فات أوانها. رئاسة الجمهورية نفسها باتت قيد الاختبار الأسوأ من نوعه منذ إنطلاق القذيفة الاولى. وأي بحث يتفادى هذا الاختبار، أو يؤجله، يعرض الجمهورية المتهالكة أصلاً، لتهديدات لا تحمد عقباها.