المثلية ووصمة سياسات الهوية

شادي لويس
الأربعاء   2021/12/08
محمد أبو تريكة
ما كان للجدل الدائر حول تصريحات لاعب كرة القدم المصري، محمد أبو تريكة عن المثلية الجنسية، أن يحدث قبل عقدين. بالأحرى، لم يكن هو في حاجة لإطلاق تعليقاته تلك في الماضي. إلا أن التبدلات في الخطاب العام جعلت من كل هذا ممكناً، بل وجماهيرياً. فخلال فترة قصيرة نسبياً، انزاحت التغطية الإعلامية لموضوع المثلية من صفحات الحوادث إلى مقالات الرأي، ومن بريد المشاكل الاجتماعية في الصحف وأبواب الاضطرابات الجنسية في المجلات الطبية، إلى أقسام الحقوق والسياسات.


تسربت لفظة المثلية إلى لسان الحديث اليومي، أقلّه إلى لغة الإعلام. بطبيعة الحال، لم تختفِ مرادفات "الشاذ" و"الشذوذ"، بل أضحت لغة إهانة متعمدة، كما يجب أن تكون، بعدما كانت هي النعوت الأكثر تهذيباً في الماضي، مقارنة بغيرها الأشد فحشاً. وبعدما كانت المثلية إثماً مجرداً، أو كبيرة من الكبائر بحُكم الدين، مهّد القبول ببسط سلطة العِلم على مزيد من المساحات، الشخصي منها والعام، للحديث عنها أحياناً بوصفها اضطراباً أو اعوجاجاً في حاجة إلى تقويم أو رعاية. أما الاحتكام اللاحق لمحكّ الحقوق، فبدّل الجدل من سؤال الاعتراف بالوجود، إلى جدوى المجاهرة وتبعاتها، ووسّع أفق الحديث من حقل خصوصية الجسد إلى دعوات الهوية والانقسامات حول حق التمثيل، بقفزة مزدوجة من الفردي إلى الجمعي، ومن موطئ الشخصي إلى العام.

ولا شك في أن المسافة بين الخطاب، وبين خبرات ووقائع الحياة اليومية، تظل واسعة. إلا أنها ليست من المباعدة، لدرجة افتراض انعدام الصِّلة كلياً. وما يجب الإقرار به أيضاً، هو أن هذه التغيرات أخذت منحى عالمياً، أو بالأحرى معولماً، بعد نهاية الحرب الباردة وتسيد الايديولوجيا الليبرالية الغربية واجندتها الحقوقية، وأننا في هذا السياق، كما في غيره،  كنا نحتل دور التابع والخاضع، أو المتلقي، وعكست جدالاتنا المحلية سابقتها في الغرب، وأحياناً كثيرة تشكلت كاستنساخات باهتة ومنقطعة الصِّلة بالواقع المعاش. فكثير منها يدور في حلقات نخبوية، وبلغة يصعب استيعابها حتى من قبل المعنيين بشكل شخصي، فتزيد اغترابَهم عزلةٌ إضافية.

ولعل المفارقة هي أن الحجج الأكثر حصافة للدفاع عن حديث أبو تريكة، بشأن التصدي للمثلية، لم ترتكن إلى الدين، بل إلى نقد ما بعد الاستعمار تارة، وإلى رفض راديكالي للنيوليبرالية  تارة أخرى. فوصمة "سياسات الهوية" تلاحق أي حديث عن حقوق النساء أو الأقليات الدينية والإثنية أو أصحاب الميول الجنسية غير السائدة أو المهاجرين واللاجئين وغيرهم من أصحاب المظالم التاريخية والراهنة. فالتهمة الجاهزة أن ذلك الميل اليساري تجاه الهوياتية، فرّغ الصراع الطبقي من معناه، عبر تفتيتات على محور الخصوصية جعلت النضالات الملحّة والأكثر جذرية، أموراً غير ممكنة. وعلى صعيد آخر، تم إلحاق أي مطالبات بالحقوق عموماً، بالأجندة الاستعمارية وهيمنة الخطابات الغربية ومحاولة فرضها على الآخر. وبهذا صُوِّرت حقوق قطاعات واسعة من المضطهدين، على أنها تعدٍّ على حقوق الغالبية وستار دخان يحجب النضالات الأحق، وتم اعتبار المطالبين بتلك الحقوق والمتضامنين معهم وكلاء للاستعمار، عن قصد أو من دون قصد. 

ومع ما يطرحه ذلك المنطق من حجج جديرة بالالتفات والفحص، فإنه يظل خطاباً نخبوياً يعتمد هو نفسه على حجج أكاديمية ذات مركزية غربية، بل وبعضه يقترض عناصره من منافحات المراجعات الذاتية داخل الحركات الموصومة بالهوياتية. أما الإشكالية الأفدح، فهي اقتصار هذا المنطق حَسَن النية على البعد السلبي للنقد، لتسقط الرغبة الراديكالية في النقد في منزلق رجعية مضاعفة في أفضل الأحوال، أو عدمية شبه كاملة في أسوئها. فما يعجز النفي المجرد عن مواجهته، هو كيف يمكننا طرح خطابات وبرامج سياسية لصالح المقموعين، بحيث تكون متحررة من الهيمنة الغربية في الوقت ذاته. بالأحرى، كيف يصح لنا التغلب على أوهام مقاومة أجندات سياسيات الهوية، من دون أن يكون ذلك على حساب النساء والمثليين والأقليات والمضطهدين لأسباب أخرى كثيرة، أي من دون أن يكون ذلك على حساب معظمنا؟ وبأي الطرق تُمكن مواجهة مطاردة الدولة للمثليين وتنصتها على حياتهم الخاصة والحياة الخاصة بالعموم، واستهداف الأمن لهم ولغيرهم، والتنكيل بالجميع بسبب ميولهم أو ممارستهم الجنسية؟