بوتين الذي يضجر الروس ويخيفهم

بسام مقداد
السبت   2021/12/25

المؤتمر الصحفي السنوي الذي درج بوتين على عقده منذ العام 2001 في الأيام الأخيرة من الشهر الأخير، دام 4 ساعات إعترف هو بانه أطال كثيراً، وقال "لقد أضجرنا الناس". أجاب على 50 سؤالاً لم يأت في ردوده عليها بأي جديد تقريباً، ما عدا رده عن حل الصراع في الدونباس. وحين سألنا الصحافية التي تنشر نصوصها في موقع RT الرسمي الناطق بالروسية يوليا يوزيك التعليق على المؤتمر، قالت بأنها لا تستطيع لأنها لا تحضر عادة مؤتمرات بوتين السنوية هذه. 

بين الأسئلة التي طرحت كان سؤال عن التعذيب في السجون الروسية طرحته كسينيا سابتشاك (ترشحت للإنتخابات الرئاسية العام 2018). وكانت المقدمة التلفزيونية والصحافية سابتشاك قد أطلقت الخريف المنصرم موقعاً إعلامياً خصيصاً لمتابعة هذه القضية التي أخذت تثير قلقاً متزايداً إثر عمليات افتضاح أمر التعذيب الوحشي المتتالية منذ مدة قريبة. وكانت أكبر عملية تسرب لأمر التعذيب قد جرت على يد روسي لجأ منذ مدة قريبة إلى فرنسا وحمل معه كمية كبيرة جداً من المعلومات (200GB ) على أشرطة الفيديو التي تسجل عمليات التعذيب في أحد معسكرات الإعتقال في سيبيريا، حيث أمضى الرجل ثلاث سنوات مكلفاً من إدارة المعتقل أرشفة شرائط الفيديو التي تصورها بنفسها لعمليات التعذيب، بغية إبتزاز السجناء وإكراههم على الإدلاء بالإعتراف المطلوب. وكانت الخدمة الروسية في محطة "الحرة" الأميركية قد نشرت في 22 من الجاري شريط فيديو معه تحدث فيه عن تفاصيل عملية فراره إلى فرنسا وبحوزته تلك الكمية الكبيرة من شرائط الفيديو. وقد أحدثت عملية الفرار هذه ضجة كبرى في وسائل الإعلام العالمية شبيهة بتلك التي أحدثها فرار السوري "قيصر" إلى الولايات المتحدة مع تلك الكمية الهائلة من صور التعذيب في سجون نظام الأسد.

أكد الروسي في فيديو "الحرة" بأن قضية التعذيب لا تتعلق بمنطقة روسية واحدة، بل تشمل جميع المعتقلات الروسية، ولا تتعلق بإدارة هذا المعتقل أو ذاك وإنما هي عملية منظمة منسقة بين جميع المؤسسات الإتحادية المسؤولة عن التحقيق والإستجواب وإدارة السجون. وتحدث عن زيارات لكبار مسؤولي هذه المؤسسات وقادتها العسكريين إلى المعتقل واستعراض عمليات تعذيب المساجين.

في رده على سؤال سابتشاك، قال بوتين بأن مشكلة التعذيب والمعاملة القاسية "غير اللائقة" للسجناء في أماكن إعتقالهم ليست مشكلة روسيا فقط، بل هي مشكلة عالمية. وقال بأنه يتلقى المعلومات من مصادر مختلفة، وليس من مصدر واحد فقط. وتساءل عن وقوع أخطاء "وأين لا تقع أخطاء"، فالحياة معقدة وكثيرة التنوع و"لا تستطيع حيال الأمر شيئاً". ولدى تقويم الوضع الحالي ينبغي الإستناد إلى معطيات التحقيق، ويجري الآن التحقيق في 17 قضية جنائية، وتم تسريح أكثر من 10 أشخاص، و"أؤكد لكم أن ليس هناك تحقيق واحد له مصلحة في هذا القضية". واضاف بأن التحقيق في مثل هذه القضايا ينبغي المضي فيه حتى النهاية، والمساجين بشر ينبغي معاملتهم معاملة إنسانية. ويذكر أن رئيس "الهيئة الإتحادية لإدارة السجون" كان قد تقدم بإستقالته، أو أُقيل،  الشهر المنصرم وتم تعيين جنرال مكانه كان يعمل نائباً له.

رئيس تحرير صحيفة  Novaya الليبرالية المعارضة دمتري موراتوف  شارك في المؤتمر بسؤال أرسله مع صحافي آخر حول مصير التحقيق بمقتل بوريس نمتسوف وصحافية من الصحيفة (يتهم بوتين شخصيا بعمليات إغتيال المعارضين والصحافيين). رد بوتين بالقول بأنه شخصياً لم يتعقب أي شخص منذ أن ترك رئاسة هيئة الأمن الفدرالية FSB (وريثة KGB). وكانت الصحيفة من أوائل المواقع الإعلامية الروسية التي بدأت تثير قضية التعذيب في السجون الروسية، ونشرت في 10 الشهر الجاري تحقيقاً مفصلاً مع أحد ضحايا التعذيب. يتحدث الرجل عن وصوله إلى معسكر الإعتقال وكيف تم في اليوم الأول ضربه المبرح من قبل 5 سجناء آخرين بإشارة من الإدارة وإغتصابه بعصا خشبية مدببة الطرف، يحتفظون بها لإخافة المساجين الجدد. شعر بأنه يموت مما جعلهم يسمحون لسيارة الإسعاف بدخول المعتقل ونقله إلى المستشقى. جاء في تقرير الأطباء أن الرجل مصاب بتمزق المعي الغليظ ، نزيف في جدار المعي نفسه ، تمزق في مجرى البول ، نزيف في الأنسجة المحيطة بالحويصلة، ولم يتعهدوا للمصاب بأي ضمان لاستمراره على قيد الحياة. 

تواصلت "المدن" مع الصحيفة وطرحت سؤالين حول عدم إفساح المجال للمواقع الإعلامية المدرجة في قائمة العار "عميل اجنبي" لطرح أسئلة على بوتين، وحول رده على سؤاله عن التعذيب في السجون الروسية. ردت كاتبة النص أعلاه أولغا بابروفا، نائب رئيس تحرير الصحيفة بإسم الصحيفة على أسئلة "المدن".

قالت بابروفا بأن مسألة العلاقة مع الصحافة المدرجة على القائمة المذكورة، مسألة محرجة لمنظمي المؤتمر الصحافي. فمن جهة كان من المهم للكرملين التأكيد على أن ضم أي موقع للقائمة لا يعني حظراً على الصحافة، وبالتالي يمكن لمندوبي هذه المواقع حضور المؤتمر. ولذلك رأينا مندوبي بعض هذه المواقع بين الصحافيين الآخرين في القاعة، حتى أن مندوب أحدها كان في الصف الأمامي مقابل بوتين. من جهة أخرى كان من المهم للمنظمين الحؤول دون هيمنة الأجندة العميلة للأجنبي على جو المؤتمر، إذ كان من الواضح أن صحافييها سوف يطرحون أسئلة عن قانون هذه القائمة. ولذلك حين طلب بوتين من مراسل BBC طرح سؤال، سأل الأخير عن قضية عملاء الأجنبي وتكاثر عددهم في الفترة الأخيرة، وفهم المنظمون أنه مع هذا السؤال ينبغي إنهاء طرح المسألة والأسئلة بشأنها.

يجهد الكرملين للتأكيد على أن الإدراج في القائمة ليس ممارسة عقابية، ولذلك يدعو صحافيين من تلك المواقع للحضور. لكن صحيفة Novaya، ولأول مرة منذ سنوات، لم تدع هذه السنة بحجة الكورونا. وفهموا في الصحيفة بالطبع أنها إشارة إلى إنزعاج الكرملين من منح نوبل للسلام هذه السنة لرئيس تحرير الصحيفة دمتري موراتوف، وأن ذلك لا يمنحهم أية أفضلية في أعين إدارة الرئيس. 

أما بشأن التعليق على رد بوتين على سؤال كسينيا سابتشاك، قالت بابروفا بأنها تعمل منذ سنوات على مسألة التعذيب في المؤسسات الإصلاحية (كما تسمى معسكرات الإعتقال) في روسيا. وتأسف بأنها، لا هي ولا كسينيا، تستطيعان التدقيق لدى بوتين في بعض تفاصيل رده. مثلاً، أين هي تلك المؤسسات الإصلاحية الأوروبية التي تمارس التعذيب برأي بوتين، اين هي تلك السجون الأوروبية التي تسودها أحوال "أسوأ مما في العالم الثالث" على قوله. وتقول "أنا شخصياً أبحث المسألة بعمق" لست على علم بأنهم يعذبون المساجين في السجون الأوروبية بإدخال غلايات الماء في الشرج". تلك خدعة شائعة للرئيس الروسي في إجاباته على الأسئلة غير المريحة له: "أنتم أنظروا كيف الحال لديهم". لكنها تتساءل "لماذا علي أن أهتم بما هي عليه السجون في أوروبا، إذا كانت لدينا تبدو كالجحيم".

تقول بابروفا أنه ليس في القانون الروسي اليوم مادة تعاقب على التعذيب اثناء الخدمة، بل ينظر إلى جميع هذه الأعمال وفق مادة"إساءة إستخدام المنصب". يتجاهل بوتين إقتراح سابتشاك بشأن إقتراح مشروع قانون في مجلس الدوما لتوسيع مفهوم التعذيب، ويتحدث بدلاً من ذلك عن بناء جناح جديد في سجن في سانت بطرسبورغ. 

وترى بابروفا أن كلام بوتين في المؤتمر الصحافي تضمن كمية هائلة من الكلمات العمومية، ولم تُسمع كلمة واحدة تدين مرتكبي التعذيب.