المرشد واستراتيجية سليماني للتفاوض

حسن فحص
السبت   2021/01/09
قد يكون القرار الايراني برفع مستوى تخصيب اليورانيوم في منشأة فردو الى درجة 20 في المئة، والتلويح بقدرتها على رفعه الى مستوى 90 في المئة اذا أرادت، مستغربا في هذه اللحظة المفصلية التي تحمل مؤشرات على امكانية انتقال الازمة بين طهران وواشنطن الى مرحلة وضع أسس تطبيع العلاقة بينهما.  وقد يدخل هذا القرار في اطار لجوء إيران الى استخدام سياسة "العصا والجزرة" مع واشنطن والترويكا الاوروبية في موضوع النووي وعملية التفاوض المرتقبة بعد دخول الرئيس الامريكي الجديد جوزيف بايدن الى البيت الابيض. ويصب في محاولة رفع قدرتها على المساومة وتعزيز موقفها التفاوضي، الا انه يحمل مخاطر ليس اقلها امكانية تقديم ورقة للجماعات المتشددة داخل الإدارة الامريكية من جهة للضغط على الرئيس الجديد بعدم اظهار اي ليونة في الملف الإيراني والاستمرار في سياسة فرض العقوبات، ومن جهة اخرى قد تدفع الرئيس الجديد لحشد إجماع دولي وفرض مزيد من الشروط مقابل إعادة تفعيل الاتفاق الموقع عام 2015، ويعقد عملية إلغاء العقوبات التي ورثها من سلفه دونالد ترمب.

وفي هذا السياق تأتي المواقف التي صدرت عن المرشد الأعلى للنظام الإيراني الاخيرة لتؤكد الدور التفاوضي للاجراءات النووية التي لجأت اليها طهران خلال السنة الماضية. اذ حدد المرشد بوضوح أولويات المرحلة المقبلة من العلاقة مع واشنطن والمجتمع الدولي في ما يتعلق بالموضوع النووي، ورسم السقف الذي يمكن ان تعتمده طهران في التعامل مع اي خطوة ايجابية تقوم بها هذه الاطراف، وربط اي تراجع ايراني عن خطوات تقليص وخفض التزاماتها بالاتفاق النووي، خاصة ما يتعلق برفع مستوى تخصيب اليورانيوم بالخطوات العملية التي تتخذها هذه الدول وتحديدا واشنطن لالغاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على بلاده. 

يمكن القول ان المرشد الايراني قد رسم افق المرحلة المقبلة امام الحكومة التي من المفترض ان تتولى عملية التفاوض والحوارات مع الادارة الامريكية، وقد انطلق من مسلمات اساسية في رؤية النظام الاستراتيجية والتي تقوم على بعدين رئيسين هما، البرنامج الصاروخي بما هو قوة ردع أمام التهديدات الخارجية، والنفوذ الاقليمي بما هو اساس الدور الخارجي لايران الذي يضعها على خريطة الدول المؤثرة والشريكة في الاقليم ومستقبله. وهما البعدان اللذان قامت عليهما كل تحركات قائد قوة القدس الجنرال قاسم سليماني الذي اغتالته ادارة ترمب في بغداد مطلع 2020. 

فعلى الرغم من اهمية البرنامج الصاروخي في الاستراتيجية الدفاعية والردعية للنظام، الا ان هذا السلاح لم يستخدم سوى في ثلاث حالات مرتبطة بالجنرال سليماني، بحيث اظهر انه الوحيد الذي يملك السلطة على تحريك واستخدام هذا السلاح، فالضربة الصاروخية التي استهدفت مقرات تنظيم داعش في دير الزور رداً على العملية التي تعرض لها البرلمان الايراني ومرقد الامام الخميني في 7 يونيو/حزيران 2017 جاءت بناء على خطة سليماني. والمرة الثانية التي استهدفت عددا من المواقع الاسرائيلية في مرتفعات الجولان ردا على غارات اسرائيلية على اهم قواعد حرس الثورة جنوب العاصمة السورية دمشق، والمرة الثالثة باستهداف قاعدة عين الاسد العراقية انتقاماً لاغتياله. 

من هنا، فان تأكيد المرشد الاعلى على رفض اي تفاوض حول البرنامج الصاروخي الايراني واخراجه من اي معادلة تفاوضية هو تأكيد على اهمية هذا البرنامج في الاستراتيجية الدفاعية والاقليمية، والدور الذي يلعبه في تثبيت مواقع النظام الايراني على خريطة المنطقة، وما يمنحه من قدرة للرد على اي تهديد قد يتعرض له النظام او مصالحه الاستراتيجية في الداخل او الخارج. وهي استراتيجية وضعها الجنرال سليماني من خلال الدور الذي تقوم به قوة القدس في حرس الثورة ونفوذها في العديد من ساحات غرب آسيا في افغانستان والعراق واليمن وسوريا ولبنان وفلسطين، وفي هذا السياق يأتي الكشف عن القاعدة الاستراتيجية للصواريخ البحرية لحرس الثورة والرسائل التي يحملها الموقع الجغرافي لها على سواحل الخليج واستعداد طهران للرد على أي اعتداء باستهداف الضفة الاخرى المقابلة من هذا الخليج. 

المرشد قطع الطريق على امكانية وضع مسألة النفوذ الاقليمي لايران على طاولة البحث في اي مفاوضات مقبلة، معتبرا ان هذا النفوذ او الوجود المباشر او من خلال "الحلفاء والاصدقاء" هو الذي ساهم في التصدي لمشروع زعزعة المنطقة وتقسيمها، وبالتالي فان هذا التمسك بالعلاقة مع القوى والجماعات المؤيدة والدائرة في الفلك الإيراني في الشرق الاوسط تشكل تمسكاً بالاستراتيجية التي عمل على تعزيزها ومأسستها الجنرال سليماني في العقدين الماضيين، بما تشكله من منصة لمواجهة "الطموحات الاسرائيلية والهيمنة الامريكية" ويجعل من ايران لاعباً اساسياً في المعادلات الدولية والاقليمية ويضمن مشروعها وحصتها مقابل الآخرين. وبالتالي فان طهران لن تتراجع عن دعم وتطوير قدرات حلفائها والوقوف الى جانبهم بما يعزز وجودها الحاسم في المنطقة. 

خامنئي قيد قدرة فريق روحاني المفاوض على المناورة حول الاتفاق النووي وملاقاة نوايا الرئيس الامريكي الجديد في اعادة احياء الاتفاق، حاسما الجدل على هذا المسار، بين العقوبات واعتبارها – امريكيا – ورقة تفاوض، مطالبا بالغائها قبل اي خطوة ايرانية وفصلها عن موضوع العودة عن خطوات خفض الالتزامات بالاتفاق النووي ومسألة العودة الى تخصيب اليورانيوم التي تدخل في سياق الخطوات المتبادلة بين طهران من جهة وواشنطن والعواصم الاوروبية من جهة اخرى في اطار تعهدات الاتفاق النووي. 

وبانتظار استراتيجية الإدارة الأمريكية الجديدة للتعامل مع ايران، حدد المرشد المستويات الاستراتيجية الايرانية في المرحلة المقبلة وما يتعلق بأطر التفاوض مع المجتمع الدولي وواشنطن، مخرجاً ملفي البرنامج الصاروخي والنفوذ الاقليمي من دائرة البحث، ومقدما رفع العقوبات على اي امكانية للعودة الى الاتفاق النووي، ما يعني استعداد طهران للاستمرار في المواجهة وعدم تقديم تنازلات سبق ان رفضتها في مرحلة لم يكن بهذا المستوى من النفوذ والدور والقدرة على تشكيل تهديد لمصالح واشنطن وحلفائها في المنطقة.