قراءة جديدة للتحرير

مهند الحاج علي
الإثنين   2020/05/25
بما أننا دخلنا اليوم في لبنان مرحلة النقاشات الكيانية بين مختلف القوى السياسية، علينا أيضاً إعادة قراءة المناسبات الوطنية الحديثة في البلاد، وعلى رأسها عيد التحرير. ذلك أن كلاً من النقاشات الكيانية الجارية حالياً، بين مؤيدي الفيديرالية الفئوية والداعين الى الغاء الطائفية السياسية ومعها المناصفة، من جهة، والاحتفالات والاعلانات المرافقة لعيد التحرير، من جهة ثانية، تشوبها مغالطات عديدة وقراءات غير مُنصفة وفيها تشويه للتاريخ.

علينا مقاربة عيد التحرير من زاوية وطنية مختلفة، بدلاً من تحويله الى مناسبة حزبية، بصفته انجازاً لـ"حزب الله" وللمؤمنين بخطه. 

والحقيقة أن انجاز تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، كان وطنياً عابراً للطوائف والجماعات. سقط في مقارعة الإحتلال الإسرائيلي في الجنوب والبقاع الغربي منذ عام 1978، آلاف اللبنانيين، وهم يتوزعون، ولو بنسب متفاوتة، على كل بقاع هذا الكيان اللبناني وطوائفه ومذاهبه. هذه الحقيقة غائبة عن سرديات الإحتفال.

ذلك أن "حزب الله" يريد لبنان أن يحتفي بالتحرير بوصفه انجازاً لـ"حزب الله" ومحوره السياسي، وأن يشعر اللبنانيون بأسرهم بالامتنان حيال هذه القائمة، رغم أن كل بلدان العالم تُقارب أعيادها الوطنية بشكل مختلف، يختفي معها الحزبي لمصلحة مشروع الأمة والبلد بأسره.

والوقائع التاريخية مغايرة لمّا يُصوره "حزب الله". بيد أن إنجاز "التحرير" تراكمي، تجتمع فيه تضحيات مجتمع بأسره من خلال ايديولوجيات مختلفة تتراوح بين القومية والماركسية والإسلامية والمشاعر الوطنية البسيطة. والحقيقة أن هذا التاريخ للتحرير لم يُكتب، وبقي يتيماً في الذاكرة المتآكلة. لا يعرف أغلب الجنوبيين والبقاعيين أن حسين الحجيري ابن عرسال قضى في عملية ضد الاحتلال الإسرائيلي عام 1990، أو أن إيلي الحداد ابن بلدة المقبلة في عكار الشمالية قضى في عملية ضد الاحتلال الإسرائيلي في دبين الجنوبية عام 1990، ومثلهم مئات قدموا من مناحٍ مختلفة في لبنان للدفاع عن جنوبه، وقدموا أغلى التضحيات، أي حياتهم، في سبيل ذلك.

المشكلة أننا أمام سردية واحدة يبدأ فيها تاريخ المقاومة مع رجال دين قرروا الانتفاض ضد الاحتلال، ومعهم مؤمنون خمينيون انضموا الى المواجهة. إيران استثمرت في مثل هذه السردية من خلال مؤسسات "حزب الله"، وأخرجت مسلسلات وأفلاماً ومقاطع فيديو وأعدت كتباً وروايات عن قصص الشهداء وحياتهم، وربطتها بسرديات الثورة الإسلامية، وكأن تحرير الجنوب حدث في خط مستقيم بدأ عام 1979، ولم ينته بعد. 

تركيز "حزب الله" على روايات شهدائه، يُظهر بعدين. الأول تديّن الشهيد وايمانه، والثاني إلتزامه بولاية الفقيه (الخميني حتى وفاته عام 1989 أو خامنئي بعدها). نتكلم عن عملية على مستوى صناعي، فيها آلاف الفيديوهات والحلقات والحوارات والكتب والكتيبات والمقالات والكراسات الدراسية والحلقات التلفزيونية والاذاعية والتدريسية. كل مؤسسات الحزب، ومن ضمنها عشرات المدارس والكليات الدينية والمؤسسات الاجتماعية (رعاية عائلات الشهداء والجرحى ومساعدة الفقراء)، تضخ هذه السردية الدينية لإنجاز التحرير في اتجاه واحد. ربما أكثر من يشعر بالغبن في مواجهة هذه السردية، مناصرو حركة "أمل" الذين اعترضوا أكثر من مرة على الروايات الحزب اللهية في هذا المجال.

من فوائد هذه السردية القائمة على نشوء الوعي الديني، ومن بعده الانتفاض ضد الظلم بقيادة رجال الدين، أنها تضمن ديمومة العمل المسلح (المقاومة) ما دامت ثنائية الخير والشر قائمة في هذا العالم، أي بشكل أبدي وكما (وعندما) يُقرر الولي الفقيه. تغيب المصلحة الوطنية، ويحل مكانها إيمان غيبي يخدم مصالح آنية يُقررها أولياء الأمر.

في المقابل، وعلى المستوى الوطني، لا تبرز سوى محاولات فولكلورية غير مؤثرة في هذه المناسبة، رغم أن على الدولة اللبنانية واجب العمل على ترسيخ مقاربة وطنية لهذا العيد، بدلاً من الفئوية السائدة في لبنان. من الضروري تصحيح سردية المقاومة في لبنان وتاريخها، باتجاه وطني يشمل ليس فقط مقاومة الاحتلال الإسرائيلي بل أيضاً مواجهة الوجود السوري بعيداً عن الفئوية (انظروا الى قائمة المخفيين في السجون السورية لتشاهدوا قائمة ضحايا شاملة لكل مناطق لبنان ومكوناته).

التأسيس لتاريخ وطني موحد ضروري، إذ يُعيق على المدى البعيد، عمل ونشاط القوى الفئوية المتحكمة بمصائرنا، والتي تُعيد السياسة إلى مربع الانقسامات المذهبية وشعاراتها كلما رأت حاجة لذلك.